روى مسلم في صحيحه بسنده عن عمران بن الحصين رضي الله عنهما قال: “بينما رسول الله ﷺ في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها فسمع ذلك رسول الله ﷺ فقال: خذوا ما عليها ودعوها، فإنها ملعونة، قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد .
لا شك أن الدابة غير مكلفة، فلا ينالها لعنة بمعنى الطرد من رحمة الله، لذلك تناول العلماء قديما هذا الحديث باعتباره من الأحاديث التي يشكل معناها على الفهم ويحتاج إلى تأمل وترو.
فذهب العلماء في تأمله إلى عدة احتمالات، أبرزها أن تكون المرأة وقت دعائها صادفت الساعة التي يعطي الله فيها كل واحد مسألته، والتي من أجلها نهى ﷺ أن يدعو الإنسان على نفسه وولده ودابته وماله، فيكون قد لحق الدابة اللعن بمعنى خروجها من البركة واليمن ودخولها في الشر والشؤم ، ويكون أمر رسول الله ﷺ المرأة أن تدع الدابة عقابا لها؛ لتجاوزها بظلمها للدابة فارتد العقاب عليها بحرمانها من مالها.
يقول الإمام ابن الجوزي – رحمه الله- :
… إن قيل اللعنة البعد وإنما يكون جزاء الذنب والناقة غير مكلفة فكيف تقع عليها لعنة فالجواب من أربعة أوجه:
أحدها: أن معنى وقوع اللعنة عليها خروجها من البركة واليمن ودخولها في الشر والشؤم، وللعنة تأثير في الأرض والمياه ، كما في مسند ابن عمر أن الناس نزلوا مع رسول الله {ﷺ} أرض ثمود واستقوا من بئارها واعتجنوا به فأمرهم رسول الله {ﷺ} أن يهريقوا ما استقوا من بئارها وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يسقوا من البئر التي كانت تردها الناقة.
وكما في حديث أبي اليسر أن رجلاً لعن بعيره فقال النبي {ﷺ} انزل عنه فلا تصحبنا بملعون ولا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم ولا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجاب لكم.
والثاني: أنه نهى عن ركوبها لأن لاعن الناقة ظلمها باللعن فتخوف رجوع اللعنة عليه، قال عمرو بن قيس: إذا لعن الرجل الدابة، قالت له : على أعصانا لله لعنته، ذكره ابن الأنباري.
والثالث :أن دعوة اللاعن للناقة كانت مجابة، ولهذا قال: إنها ملعونة.
والرابع : أنه إنما فعل هذا عقوبة لصاحبها لئلا يعود إلى مثل ذلك حكاهما الخطابي.
وقال الإمام الطحاوي في شرح مشكل الآثار- رحمه الله- :
… عن عمران بن حصين قال: كنا مع النبي ﷺ , فلعنت امرأة ناقتها , فقال رسول الله ﷺ: ” خذوا متاعكم عنها , فإنها ملعونة ” قال عمران: فكأني أنظر إليها ناقة ورقاء – فسأل سائل عن المعنى الذي أمرت به مالكة هذه الناقة بتخليتها للعنها إياها؟
فكان جوابنا له في ذلك , بتوفيق الله عز وجل وعونه: أن اللعن في كلام العرب هو الطرد والإبعاد , ومنه قول الله عز وجل: ” { أولئك الذين يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } , فكان لعنة الله عز وجل إياهم طردهم عنه , وإبعادهم منه . كما حدثنا ولاد النحوي قال: حدثنا المصادري , عن أبي عبيدة معمر بن المثنى: لعنهم الله: أي أطردهم الله وأبعدهم , يقال: ذئب لعين ؛ أي: مطرود . قال شماخ بن ضرار :
ذعرت به القطا ونفيت عنه … مقام الذئب كالرجل اللعين
” فكان قولها ذلك – أعني: لعنها الله – لناقتها ؛ أي: أطردها الله , وأبعدها على وجه الدعاء منها عليها بذلك .
فيحتمل أن يكون ذلك وافق منها وقتا ينيل الله عز وجل فيه عطاءه , فلما سألته تلك المرأة ذلك في ناقتها أجابها فيها , فصارت به ملعونة ؛ أي: مطرودة مباعدة , لا لمعنى من المعاني حل بالناقة من عقوبة لها , إذ كانت لا ذنب لها – فيما كان من مالكتها فيها , وعادت العقوبة في ذلك والذم عليه , على المرأة التي كانت منها اللعنة , فمنع رسول الله ﷺ أن تصحبه ناقة قد جعلها الله عز وجل مطرودة , وكان في ذلك منع صاحبتها من الانتفاع بها في المستأنف لإجابة الله عز وجل إياها فيها بما دعته عليها , ولما عادت مطرودة من الله عز وجل , منع رسول الله ﷺ من صحبتها إياه ؛ لأن صحبتها إياه ضد للطرد الذي أحلها الله عز وجل به , وأصارها إليه .
وقد دل على ما ذكرنا من اللعن أنه الدعاء ما قد حدثنا الحسين بن نصر البغدادي …. قال: أتينا جابر بن عبد الله فحدثنا قال: سرنا مع رسول الله ﷺ في غزوة بواط , وهو يطلب المجدي بن عمرو الجهني , فكان الناضح يعتقبه منا الخمسة , والستة , والسبعة , فدارت عقبة رجل من الأنصار على ناضح له فركبه , ثم بعثه فتلدن عليه بعض التلدن , فقال: شأ لعنك الله , فقال رسول الله ﷺ: ” من هذا اللاعن بعيره ؟ ” قال: أنا يا رسول الله قال: ” انزل عنه لا يصحبنا ملعون , لا تدعوا على أنفسكم , ولا تدعوا على أولادكم , ولا تدعوا على أموالكم , فيوافق من الله عز وجل ساعة نيل فيها عطاء , فيستجيب لكم ” .
قال أبو جعفر: فرد ما في هذا الحديث إلى الدعاء , فدل ذلك أن اللعن الذي كان من المرأة لناقتها في حديث عمران كان دعاء منها عليها , وافقت فيه ساعة ينال من الله عز وجل عطاؤه لمن سأله فيها , فأجابها في دعائها على ناقتها فيما دعت به عليها . وفي حديث جابر مثل ذلك في الرجل اللاعن بعيره , وكانت الناقة في حديث عمران والناضح في حديث جابر بحالهما الذي كانا عليه قبل أن يكون من مالكيهما فيهما ما كان, إذ لا ذنب لهما كان في ذلك , وعادت العقوبة بما كان من مالكيهما على مالكيهما[1] , فحرما بذلك المنافع التي كانا يصلان إليها من الناقة ومن الناضح اللذين كانا لهما , وعاد ذلك تخفيفا عن الناقة والناضح من الحمولة عليهما , والركوب من مالكيهما إياهما , والله نسأله التوفيق .
وقد روي عن أبي هريرة في هذا الباب مثل الذي رواه عمران بن حصين فيه ،كما قد حدثنا أحمد بن شعيب .. عن أبي هريرة: بينا رسول الله ﷺ في ناس من أصحابه إذ لعن رجل منهم بعيره , فقال رسول الله ﷺ: ” من اللاعن بعيره ؟ ” , فقال رجل: أنا يا رسول الله قال: ” فأخره عنا , فقد أوجبت ” – فكان في هذا الحديث إخبار رسول الله ﷺ لاعن بعيره المذكور فيه أنه قد أوجب , فكان ذلك بمعنى أنه كان منه الدعاء الذي أجيب فيه , فوجبت به اللعنة , وهي الطرد في البعير الذي لعنه , فعاد معنى هذا الحديث إلى معنى حديث عمران , وزاد عليه الإيجاب الذي دل عليه حديث جابر الذي ذكرنا .
[1]- كذا بالنسخة التي حققها الشيخ شعيب ، ولعله ” ماليهما”