لا شك أن من موانع حسن التوكل على الله: الاستغراق في حب الدنيا والاغترار بسرابها، والجري وراء متاعها الأدنى، والتعلق بشهواتها وزينتها، كما قال تعالى: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا) (آل عمران: 14).
فمن غرّه هذا المتاع، وأفرغ في طلبه والحرص عليه فكره وقلبه، لم يبق لديه متسع للتفكير في أمر آخر، فقد غدت الدنيا أكبر همه، ومبلغ علمه، ومحور سعيه، وغاية وجوده، ولذا قال الله تعالى: (فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم) (النجم: 11)، (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً) (الكهف: 28).
وقد علمنا النبي ﷺ أن ندعو الله بهذا الدعاء: “اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا.
إن عبيد الدنيا لا يمكنهم أن يخلصوا العبودية لله، فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، ومن لم يخلص عبوديته لله لم يعرف التوكل عليه، فالتوكل من لوازم العبودية لله رب العالمين: (قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب) (الرعد: 30).
لقد حذرنا الله تعالى من غرور الدنيا، كما حذرنا من غرور الشيطان: (يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور) (فاطر: 5).
وقد عرف الناس من تجاربهم من الدنيا: أن أشهر أوصافها “الغدر” فما أسرع ما تتخلى عن عشاقها وخدامها أحوج ما يكونون إليها، وأكثر ما يكونون ركوناً إليها وتعويلاً عليها. وما أصدق ما قال الشاعر في وصفها :
هي الدنيا تقول بملء فيها : حذار، حذار، من غدري وفتكي
فلا يغرركمو مني ابتسـام : فقـولي مضحك والفعل مبكي
ومن ثم عرف أولو الألباب أن هذه الدنيا لا ثقة بها، ولا أمان لها، ولا اطمئنان إليها، ولا اعتماد عليها، فالإنسان فيها – وإن أوتي ما أوتي- معرض ما بين لحظه وأخرى، لبلية نازلة، أو نعمة زائلة، أو منية قاتلة، ورحم الله أبا الحسن التهامي حين قال :
جبلت على كدر، وأنت تريدها صفواً من الآلام والأكدار!
ومكلف الأيام ضد طباعهــا متطلب في الماء جذوة نار!
وقد دخل بعضهم على أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه، فوجده يقول مخاطباً الدنيا، كأنما يتمثلها أمامه، ويدفعها عنه بكلتا يديه: “إليك عني يا دنيا، غري غيري، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعه فيها، فعمرك قصير وخطبك حقير”.
فمن عرف قيمة الدنيا وهوانها على الله، وكثرة جفائها، وسرعة فنائها، لم تقف حائلاً بينه وبين التوكل على الله تعالى.
إنما تعتبر الدنيا حائلاً وعائقاً حقاً -دون التوكل على الله- لصنف من الناس، اتخذها رباً فاتخذته لها عبداً. ومن جعل نفسه عبداً لغير الله لم يصح منه توكل على الله، لأن التوكل فرع عبودية القلب لله وحده، ولا تجتمع في القلب عبوديتان و(ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) (الأحزاب: 4).
فيا سعادة من انتصر على هذه العوائق في طريق المتوكلين، فعرف مقام ربه ذي الجلال والإكرام، وعرف فقر نفسه وفاقته الذاتية التي لا تفارقه -إلا إذا تحول من مخلوق إلى خالق!- وعرف ضعف الخلق وحاجتهم، وأنهم عباد أمثاله، لا يملكون لأنفسهم -ناهيك بغيرهم- ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، وعرف قيمة الدنيا التي يتهافت الناس عليها من حوله، وأنها إن لم تزل عنه زال هو عنها .. وتمكنت هذه المعرفة من قلبه حتى غدت يقيناً يغمره، ووجداناً يعيشه، وإرادة تحركه، وهنا يدخل في زمرة المؤمنين حقاً: (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون) (الأنفال: 2).
(ربنا عليك توكلنا واليك أنبنا واليك المصير * ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا، إنك أنت العزيز الحكيم) (الممتحنة: 4، 5).