جاء في حديث البخاري ومسلم عن الإسراء والمعراج قولُه ـ صلّى الله عليه وسلم ـ “ثُمَّ رُفِعْتُ إلى سِدرة المُنتهى، فإذا نَبْقُها مثل قِلال هَجَر، وإذا ورقُها مثل آذان الفِيلة، قال: هذه سِدرة المُنتهى، وإذا أربعة أنهار ، نهران باطِنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال أما الباطِنان فنهران في الجنّة وأما الظاهران فالنِّيل والفُرات.
وجاء في رواية للبخاري “فإذا في أصلِها أي سِدرة المنتهى ، أربعة أنهار” وعند مسلم “يخرُج من أصلها” وعند مسلم أيضا من حديث أبي هريرة “أربعة أنهار من الجنّة النيل والفرات وسَيْحان وجَيْحان” ووقع في رواية شريك كما عند البخاري أنه رأي في سماء الدنيا نهرين يطردان ـ يجريان ـ فقال له جبريل: هما النيل والفرات عنصرهما.
وجاء في رواية البيهقي: (فإذا فيها ـ السماء السابعة ـ عين تجري يقال لها السَّلسبيل، فينشَقُّ منها نهران أحدهما الكَوثر والآخر يقال له: نهر الرحمة) وفي رواية لمسلم (سَيْحان وجَيْحان والنيل والفرات من أنهار الجنة) ووقع في حديث الطبري عن أبي هريرة : (سِدرة المنتهى يخرج من أصلها أربعة أنهار، نهر من ماء غير آسِن ونهر من لبن لم يتغيّر طعمه ونهر من خمر لذّة للشاربين ونهر من عسل مُصَفًّى).
هذه بعض الأحاديث بروايات مختلِفة عن النيل والفرات وغيرهما من الأنهار المشهور في الدنيا، وقد كثر الكلام عليها وبخاّصة في تحديد المنابع، وهل النيل والفرات اللذان عند سِدرة المنتهى هما النيل والفرات اللذان في الأرض أو غيرهما؟
وكلام الشُّراح للأحاديث كله اجتهادي، وفيه تضارُب، ومن الصعب التوفيق بين ما قالوه، وبين ما يقوله علماء الجغرافيا في تحديد منابع النيل والفرات.
فنقول: إن المسألة ليست من العقائد التي يتوقّف عليها الإيمان ، وليست من الشّريعة التي كُلِّف بها المسلِم، فجهلُها لا يضرُّ الدِّين، والقاعدة في مثل هذه الأخبار التي يناقِض ظاهرُها العقل في مسلّماته الثابتة أن يُنظَر إلى الخبر، فإن لم يكن ثبوته بوجه يقبل في العقائد، وهو الصحة ـ على خلاف في مراتبها ـ فلا داعي لمحاولة فَهم النص والتوفيق بينه وبين العقل الذي يقدّم عليه. وإن ثبت أن الخبر صحيح فيجب التسليم به ولا يجوز إنكاره، وهنا يجب صرفه عن ظاهره بالتأويل ليتفق مع العقل في قضاياه المسلّمة أو الواقع في مشاهدته المحسوسة، ولا ينبغي تأويله لصعوبة فَهمه، فقد تكشِف الأيام والمكتشفات عن صِدقه ، وقد تسرّع بعض الكتاب فأنكر بعض هذه الأخبار أو أوَّلها ثم ظهر بعد أنّها صادقة في معانيها التي جاءت بها.
هذا بعض النماذج من شرح هذا الحديث: قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: أصْل النيل والفرات من الجنّة، وأنهما يخرجان من أصل السِّدرة، ثم يسيران حيث شاء الله، ثم يَنزلان إلى الأرض، ثم يَسيران فيها، ثم يخرجان منها.
وهذا لا يمنعه العقْل ، وقد شهِد به ظاهر الخبر فليُعتمد. ثم يتابع النووي قوله فيقول: وقول عياض: الحديث يدلّ على أن أصل سِدرة المنتهى في الأرض، لقوله: إن النيل والفرات يخرجان من أصلها، وهما يخرجان من الأرض فيلزم منه أن أصل السدرة في الأرض ـ متعقّب. أن خروجهما من أصلها غير خروجهما بالنّبع من الأرض، والحاصِل أن أصلهما من الجنّة ويخرجان أولاً من أصلها ثم يسيران إلى أن يستقرّا في الأرض ثم ينبُعان. هذا كلام النووي الذي يقول: إن العقل لا يمنعه وما دام الخبر قد ثبت به فلنعتمده، صحيح أن العقل لا يمنعه فالله قادر على كل شيء، ولكنّه صعب التصوُّر، ولا نُسَلِّم به إلا لصحة الخبر به. لكن الألفاظ الواردة في الخبر قد تدل على معان يسهل على العقل تصورها،
فقد قال القرطبي: وقيل: إنما أطلق على هذه الأنهار من الجنّة تشبيهًا لها بأنهار الجنة لما فيها من شدة العُذوبة والحُسن والبركة، وهذا هو الذي تميل إليه النفس إذا كان المراد بالنيل والفرات نهري مصر والعراق، أما إذا أُريد بهما وبغيرهما أنّ أنهار الجنّة حَملَتْ أسماء أنهار الدُّنيا حقيقة أو تشبيهًا كما يدلُّ عليه حديث الطبري عن أبي هريرة، وما جاء عن كعب الأحبار عند البيهقي، فلا صعوبة في فَهم الأحاديث، ولزيادة المعلومات للتّرف العقلي. راجع شرح الزرقاني للمواهب اللدنية للقسطلاني في حديثه عن الإسراء والمعراج.