الذين يدعون أن الشيطان يوحي إلى النبي ﷺ؛ قد استندوا إلى قصة مكذوبة غير صحيحة عن النبي ﷺ، وهي قصة الغرانيق، وقد اتفق العلماء على أنها مكذوبة.
كما استندوا إلى فهمهم الخاطئ لقوله تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم)، حيث فهموا أن الشيطان يلقي في القراءة، والآية تذكر أنه يلقي وساوسه في أمنيات النبي ﷺ ، ومع ذلك ينسخ الله تعالى الوساوس قبل النطق بها، فلا يقرأ النبي ﷺ إلا ما أوحي إليه من ربه تعالى، كما أخبر تعالى عنه : ( وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى).
يقول الدكتور عبد الصبور مرزوق، من علماء الأزهر:
الظالمون لمحمد ﷺ يستندون فى هذه المقولة إلى أكذوبة كانت قد تناقلتها بعض كتب التفسير من أنه ﷺ كان يقرأ فى الصلاة بالناس سورة ” النجم: فلما وصل ﷺ إلى قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى* ومناة الثالثة الأخرى) “النجم: 19 –20″، تقول الأكذوبة:
إنه ﷺ قال: ـ حسب زعمهم ـ تلك الغرانيق ـ الأصنام ـ العلى وإن شفاعتهن لترتجى.
ثم استمر ﷺ فى القراءة ثم سجد وسجد كل من كانوا خلفه من المسلمين وأضافت الروايات أنه سجد معهم من كان وراءهم من المشركين !!
وذاعت الأكذوبة التى عرفت بقصة ” الغرانيق ” وقال ـ من تكون أذاعتها فى صالحهم ـ: إن محمداً أثنى على آلهتنا وتراجع عما كان يوجهه إليها من السباب. وإن مشركى مكة سيصالحونه وسيدفعون عن المؤمنين به ما كانوا يوقعونه بهم من العذاب.
وانتشرت هذه المقولة حتى ذكرها عدد من المفسرين حيث ذكروا أن المشركين سجدوا كما سجد محمد ﷺ وقالوا له: ما ذكرت آلهتنا بخير قبل اليوم ولكن هذا الكلام باطل لا أصل له.
وننقل هنا عن الإمام ابن كثير فى تفسيره الآيات التى أعتبرها المرتكز الذى استند إليه الظالمون للإسلام ورسوله وهى فى سورة الحج حيث تقول:
( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم) ” الحج: 52″، وبعد ذكره للآيتين السابقتين يقول: ” ذكر كثير من المفسرين هنا قصة ” الغرانيق وما كان من رجوع كثير ممن هاجروا إلى الحبشة ” ظنًّا منهم أن مشركى مكة قد أسلموا.
ثم أضاف ابن كثير يقول: ولكنها – أى قصة ” الغرانيق ” – من طرق كثيرة مرسلة ولم أرها مسندة من وجه صحيح ، ثم قال ابن كثير:
عن ابن أبى حاتم بسنده إلى سعيد بن جبير قال: ” قرأ رسول الله ﷺ بمكة ” سورة النجم ” فلما بلغ هذا الموضع. (أفرأيتم اللات والعزّى * ومناة الثالثة الأخرى ). قال بن جبير: فألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى.
فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم.. فأنزل الله هذه الآية: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عزيز حكيم) “الحج: 53” ، ليقرر العصمة والصون لكلامه سبحانه من وسوسة الشيطان.
وربما قيل هنا: إذا كان الله تعالى ينسخ ما يلقى الشيطان ويحكم آياته فلماذا لم يمنع الشيطان أصلاً من إلقاء ما يلقيه من الوساوس فى أمنيات الأنبياء.
والجواب عنه قد جاء فى الآيتين اللتين بعد هذه الآية مباشرة:
أولاً : ليجعل ما يلقيه الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض من المنافقين والقاسية قلوبهم من الكفار وهو ما جاء فى الآية الأولى منهما:(ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض) “الحج: 54″.
ثانياً : ليميز المؤمنين من الكفار والمنافقين فيزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ؛ وهو ما جاء فى الآية الثانية:(وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادى الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ) ” الحج:55″.
هذا: وقد أبطل العلماء قديمًا وحديثًا قصة الغرانيق. ومن القدماء الإمام الفخر الرازى الذى قال ما ملخصه:
“ قصة الغرانيق باطلة عند أهل التحقيق وقد استدلوا على بطلانها بالقرآن والسنة والمعقول :
أما القرآن فمن وجوه: منها قوله تعالى:(ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين) لحاقة: 44 ـ 47.
وقوله سبحانه:(وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى). “النجم: 3- 4”.
وقوله سبحانه حكاية عن رسوله ﷺ:(قل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسى إن أتبع إلا ما يوحى إلىّ ) “يونس: 15”.
وأما بطلانها بالسنة فيقول الإمام البيهقى:
روى الإمام البخارى فى صحيحه أن النبى ﷺ قرأ سورة ” النجم ” فسجد وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن وليس فيها حديث ” الغرانيق ” وقد روى هذا الحديث من طرق كثيرة ليس فيها ألبتة حديث الغرانيق.
فأما بطلان قصة ” الغرانيق ” بالمعقول فمن وجوه منها:
أ ـ أن من جوّز تعظيم الرسول للأصنام فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه ﷺ كان لنفى الأصنام وتحريم عبادتها ؛ فكيف يجوز عقلاً أن يثنى عليها ؟
ب ـ ومنها: أننا لو جوّزنا ذلك لارتفع الأمان عن شرعـه ﷺ فإنه لا فرق – فى منطق العقل – بين النقصان فى نقل وحى الله وبين الزيادة فيه.