مذهب ابن القيم وشيخ الإسلام ابن تيمية طرد الجواز في كل ضرورة.
شهادة الكافر على المسلم :
الإسلام يشترط فى الشاهد أن يكون مسلمًا، فلا تقبل شهادة غير المسلم سواء كانت الشهادة على مسلم أو غير مسلم. وهذا هو الأصل الذى يسلم به جميع الفقهاء، وهو مأخوذ من قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، ولكن هذا الأصل المتفق عليه له استثناءات مختلف عليها:
استثناءات قبول شهادة الكافر على المسلم :
__________
(1) البحر الرائق [ج7 ص69]، المحلى [ج9 ص393].
(2) مواهب الجليل [ج6 ص150]، أسنى المطالب [ج4 ص312]، الإقناع [ج4 ص400]، البحر الرائق [ج7 ص69]، المحلى [ج9 ص393، 394].
__________
يرى الحنفيون قبول شهادة الذميين على مثلهم والحربين على مثلهم، لأن النبى -ﷺ- أجاز شهادة النصارى بعضهم على بعض، ولأنهم من أهل الولاية على أنفسهم وأولادهم فيكونون من أهل الشهادة على جنسهم ((1)).
ويرى الزيديون قبول شهادة غير المسلم على ملته دون غيرهم من الملل، فلا تجوز شهادة اليهود على النصارى ولا شهادة النصارى على اليهود ((2)).
ويرى ابن تيمية وتلميذه ابن القيم قبول شهادة غير المسلمين بعضهم على بعض تحقيقًا للمصلحة العامة وتحقيقًا للعدالة، وهما بذلك يرجحان رواية ضعيفة عن أحمد بجواز قبول الشهادة ((3)).
ولا يقبل المالكيون والشافعيون شهادة غير المسلمين، هذا يتفق مع الرواية المشهورة فى مذهب أحمد – وهى الرواية المعمل بها – كما يتفق مع المذهب الظاهرى ((4)).
الاستثناء الثانى : شهادة غير المسلمين على المسلمين فى الوصية حال السفر :
يرى الحنابلة أنه إذا شهد بوصية المسافر الذى مات فى سفره شهود من غير المسلمين قبلت شهادتهم إذا لم يوجد غيرهم، لقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْت) [المائدة: 106].
ويتفق رأى الظاهريين مع رأى الحنابلة فى قبول شهادة غير المسلم إذا لم يوجد غيرهم.
__________
(1) البحر الرائق [ج7 ص102، 104].
(2) شرح الأزهار [ج4 ص193].
(3) الطرق الحكمية [ص157، 163].
(4) مواهب الجليل [ج6 ص150]، أسنى المطالب [ج4 ص339]، المغنى [ج12 ص53]، المحلى [ج9 ص406].
__________
أما المالكيون والحنفيون والشافعيون والزيديون فلا يقبلون شهادة غير المسلم فى هذه الحالة، وحجتهم أن من لا تقبل شهادته على غير الوصية لا تقبل فى الوصية كالفاسق، ولأن الفاسق لا تقبل شهادته فالكافر أولى. واختلفوا فى تأويل الآية، فمنهم من حملها على التحمل دون الأداء، ومنهم من قال : المراد بقوله {مِنْ غَيْرِكُمْ} أى من غير عشيرتكم، ومنهم من قال: معنى الشهادة فى الآية هو اليمين ((1)).
الاستثناء الثالث : شهادة غير المسلم على المسلم عند الضرورة:
يرى ابن تيمية وتلميذه ابن القيم قبول شهادة غير المسلم على المسلم فى كل ضرورة حضرًا وسفرًا فى كل شئ عُدم فيه المسلمون، قياسًا على قبول شهادتهم فى الوصية، لأن شهادتهم قبلت فى الوصية للضرورة فتقبل فى كل ضرورة.
وفى مذهب أحمد رواية بقبول شهادة السبى بعضهم لبعض فى النسب إذا ادعى أحدهم أن الآخر أخوه، وهذا للضرورة.
ويجيز مالك شهادة الطبيب غير المسلم حتى على المسلم للحاجة استثناء واحدًا فى مذهبه، أما بقية الفقهاء فلا يقبلون شهادة غير المسلم. انتهى.
وفي كتاب الطرق الحكمية لابن القيم :
قال شيخنا رحمه الله وقول الإمام أحمد في قبول شهادتهم في هذا الموضع هو ضرورة يقتضى هذا التعليل قبولها ضرورة حصرا وسفرا
على هذا لو قيل يحلفون في شهادة بعضهم على بعض كما يحلفون في شهاداتهم على المسلمين في وصية السفر لكان متوجها ولو قيل تقبل شهادتهم مع أيمانهم في كل شيء عدم فيه المسلمون لكان له وجه ويكون بدلا مطلقا.
قال الشيخ ويؤيد هذا ما ذكره القاضي وغيره محتجا به، وهو في الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد، أن رجلا من المسلمين خرج فمر بقرية، فمرض ومعه رجلان من المسلمين، فدفع إليهما ماله، ثم قال ادعوا لي من أشهده على ما قبضتماه، فلم يجد أحدا من المسلمين في تلك القرية، فدعوا أناسا من اليهود والنصارى، فأشهدهم على ما دفع إليهما وذكر القصة، فانطلقوا إلى ابن مسعود، فأمر اليهودي والنصراني أن يحلفا بالله لقد ترك من المال كذا وكذا، ولشهادتنا أحق من شهادة هذين المسلمين، ثم أمر أهل المتوفي أن يحلفوا أن شهادة اليهود والنصارى حق، فحلفوا فأمرهم ابن مسعود أن يأخذوا من المسلمين ما شهد به اليهودي والنصراني وذلك في خلافة عثمان -رضي الله عنه-.
فهذه شهادة للميت على وصيته وقد قضى بها ابن مسعود مع يمين الورثة لأنهم المدعون والشهادة على الميت لا تفتقر إلى يمين الورثة، ولعل ابن مسعود أخذ هذا من جهة أن الورثة يستحقون بأيمانهم على الشاهدين إذا استحقا إثما فكذلك يستحقون على الوصية مع شهادة الذميين بطريق الأولى.
وقد ذكر القاضي هذا في مسألة دعوى الأسير إسلاما فقال وقد قال الإمام أحمد في السبي إذا ادعوا نسبا وأقاموا بينة من الكفار قبلت شهادتهم نص عليه في رواية حنبل وصالح وإسحاق بن إبراهيم لأنه قد تتعذر البينة العادلة ولم يجز ذلك في رواية عبد الله وأبي طالب.
قال شيخنا -رحمه الله تعالى- فعلى هذا كل موضع ضرورة غير المنصوص فيه فيه روايتان لكن التحليف ههنا لم يتعرضوا له فيمكن أن يقال لأنه إنما يحلف حيث تكون شهادتهم بدلا كما في مسألة الوصية بخلاف ما إذا كانوا أصولا.