ما أجمل ما قاله الشيخ حسن البنا من قديم ، وهو يصور موقع الفرد بين أمته ، يقول :-
….قد ينشأ الفرد بين أبوين مترفين آمنين ناعمين فلا يجد من مشاغل الحياة ما يشغل باله ويؤلم نفسه ولا يطالب بما يرهقه أو يضنيه ، وقد ينشأ الفرد الآخر في ظروف عصبيه وبين أبوين فقيرين ضعيفين فلا يطلع عليه فجر الحياة حتى تتكدس على رأسه المطالب وتتقاضاه الواجبات من كل جانب وسبحان من قسم الحظوظ فلا عتاب ولا ملامسة .انتهى.
وأنت – أيها المسلم – إذا كنت من النوع الثاني ، ولدت بين أبوين كبيرين ، يحتاجان رعايتك ووقتك وجهدك، ولعل الله بذلك يهيئك لما لا تعلمه الآن.
فقم بما اقتضاه حالك، وارع أبويك، فهذا واجب عليك حتى لو تضررت دنياك، فحسبك أن تسلم لك آخرتك، ولعل الحل الثاني ، وهو أن تستعين عليهما بزوجة عاقلة يكون مخرجا لك كما استعان سيدنا جابر بن عبد الله على أخواته بزوجة ثيب كبيرة، تقدر على تأهيلهن، وشكر له النبي ﷺ ذلك ، ودعا له.
جاء في كتاب الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي :-
وقال أحمد بن حنبل في رواية صالح وأبي داود : إن كان له أبوان يأمرانه بالتزويج أمرته أن يتزوج , أو كان شابا يخاف على نفسه العنت أمرته أن يتزوج . وقال الشيخ موفق الدين في حج التطوع إن للوالد منع الولد من الخروج إليه ; لأن له منعه من الغزو وهو من فروض الكفايات , والتطوع أولى وقال في مسألة ( لا يجاهد من أبواه مسلمان إلا بإذنهما يعني تطوعا ) إن ذلك يروى عن عمر وعثمان وإنه قول مالك والشافعي وسائر أهل العلم واحتج بالأحاديث المشهورة في ذلك قال : ولأن بر الوالدين فرض عين والجهاد فرض كفاية وفرض العين مقدم , فإن تعين عليه الجهاد سقط إذنهما , وكذلك كل فرائض الأعيان , وكذلك كل ما وجب كالحج وصلاة الجماعة والجمع والسفر للعلم الواجب لأنها فرض عين فلم يعتبر إذن الأبوين فيها كالصلاة . وظاهر هذا التعليل أن التطوع يعتبر فيه إذن الوالدين كما يقوله في الجهاد وهو غريب والمعروف اختصاص الجهاد بهذا الحكم والمراد والله أعلم أنه لا يسافر لمستحب إلا بإذنه كسفر الجهاد .
وقال الميموني : قلت لأبي عبد الله كان الشافعي يقول بر الوالدين فرض قال لا أدري قلت : فمالك قال : ولا أدري قلت : فتعلم أن أحدا قال فرض قال : لا أعلمه قلت : ما تقول أنت فرض قال : فرض ؟ هكذا ولكن أقول واجب ما لم يكن معصية . ثم قال أبو عبد الله قال الله تبارك وتعالى : { فلا تقل لهما أف } وقال { : أن اشكر لي ولوالديك } . قال الميموني قال : علي حديث ابن مسعود { سألت النبي ﷺ : أي العمل أفضل ؟ قال : الصلاة لأول وقتها وبر الوالدين } ويقول في الجهاد : { الزمها فإن الجنة عند رجليها } ويقول : { ارجع فأضحكهما من حيث أبكيتهما } قلت : فيه تغليظ من كتاب وسنة قال : نعم .
وقال ابن حزم في كتاب الإجماع قبل السبق والرمي : اتفقوا على أن بر الوالدين فرض , واتفقوا على أن بر الجد فرض , كذا قال , ومراده والله أعلم واجب . ونقل الإجماع في الجد فيه نظر , ولهذا عندنا يجاهد الولد ولا يستأذن الجد وإن سخط وقال في رواية المروذي : بر الوالدين كفارة الكبائر . وكذا ذكر ابن عبد البر عن مكحول , وذكر القاضي في المجرد وغيره أيضا أن بر الوالدين واجب . وقال أبو بكر في زاد المسافر من أغضب والديه وأبكاهما يرجع فيضحكهما وقال في رواية أبي عبد الله : روى عبد الله بن عمرو قال: { جاء رجل إلى النبي ﷺ فبايعه فقال : جئت لأبايعك على الجهاد وتركت أبوي يبكيان قال : ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما }.
وقال الشيخ تقي الدين بعد قول أبي بكر : هذا مقتضى قوله أن يبرهما في جميع المباحات فما أمراه ائتمر وما نهياه انتهى , وهذا فيما كان منفعة لهما ولا ضرر عليه فيه ظاهر مثل ترك السفر وترك المبيت عنهما ناحية .
والذي ينتفعان به ولا يستضر هو بطاعتهما فيه قسمان :
-قسم يضرهما تركه فهذا لا يستراب في وجوب طاعتهما فيه , بل عندنا هذا يجب للجار .
-وقسم ينتفعان به ولا يضره أيضا طاعتهما فيه على مقتضى كلامه , فأما ما كان يضره طاعتهما فيه لم تجب طاعتهما فيه لكن إن شق عليه ولم يضره وجب , وإنما لم يقيده أبو عبد الله لأن فرائض الله من الطهارة وأركان الصلاة والصوم تسقط بالضرر فبر الوالدين لا يتعدى ذلك وعلى هذا بنينا أمر التملك فإنا جوزنا له أخذ ما له ما لم يضره , فأخذ منافعه كأخذ ماله , وهو معنى قوله : { أنت ومالك لأبيك } فلا يكون الولد بأكثر من العبد . ثم ذكر الشيخ تقي الدين : نصوص أحمد تدل على أنه لا طاعة لهما في ترك الفرض وهي صريحة في عدم ترك الجماعة وعدم تأخير الحج .