من خصائص الأخلاق الإسلامية: أنها أخلاق واقعية، لا تصدر أوامرها ونواهيها لأناس يعيشون فى أبراج عاجية، أو يحلقون فى أجواء المثالية المجنحة، إنما تخاطب بشرًا يمشون على الأرض، لهم دوافع وشهوات، ولهم مطامع وآمال، ولهم مصالح وحاجات، ولهم من دوافع الجسد ما ينزع بهم إلى الأرض، كما لهم من أشواق الروح ما يرتفع بهم إلى السماء.
لم يكلف القرآن الإنسان أن يحب أعداءه، وأن يبارك لاعنيه – كما أمر الإنجيل المحرف – فهذا شيء لا تطيقه النفس البشرية – إلا شذوذًا وإنما أمر القرآن المؤمنين أن يعدلوا مع أعدائهم، ولا تحملهم عدواتهم وبغضهم على الاعتداء عليهم قال تعالى: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى) (المائدة:8)، وهذا هو المقدور للبشر، وأنه مع ذلك لقمة لا يرتقى إليها إلا المؤمنون.
ولم يقل القرآن ما قال الإنجيل المحرف: (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ومن سرق قميصك، فأعطه إزارك)، فهذا لا يستطيعه – كما يشهد الواقع- كل الناس، ولا في كل الأحوال. بل قال القرآن: (وجزاءُ سيئةٍ سيئةً مثلها، فمن عفا وأصلح، فأجره على الله) (الشورى:40).
وقال تعالى:(وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) (النحل:126)، فأقر مبدأ العدل، ثم فتح الباب للمتطلعين إلى السمو والكمال، ليعفوا ويصفحوا. الشيء الذى يحرمه الإسلام هو العدوان قال تعالى:(ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) (البقرة:19)، وبذلك وفق الإسلام بين عدل التوراة وسماحة الإنجيل، وهذه هي الواقعية المثالية المتوازنة.
لم يقل القرآن ما قال الإنجيل المحرف: (إذا أعثرتك عينك فاقلعها، وألقها عنك، فإنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك من أن يلقى بدنك كله في جهنم)، بل أمر المؤمنين والمؤمنات أن يغضوا من أبصارهم، كما أمرهم بالتوبة مما قد يبدر منهم، فقال تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعًا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون) (النور:31)، وعفا الرسول عن نظرة الفجاءة، وقال ﷺ: “لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى، وليست لك الآخرة”.
ومن واقعية الأخلاق الإسلامية أنها لم تفترض في المؤمنين المتقين أن يكونوا ملائكة أولى أجنحة، لا تسول لهم أنفسهم سوءًا يومًا، ولا يتورطون في أوحال الرذيلة أبدًا، كلا إن الإنسان خلق على طبيعة مزدوجة، جمعت بين طين وحمإٍ مسنون، وبين نفخة من روح الله. فليس بمستنكر أن يذنب، ثم يتوب. إنما المنكر أن يتمادى فى الذنوب ويستمرئ الرذيلة والعصيان.
لقد أذنب آدم -أبو البشر- وتاب فتاب الله عليه، فلا غرابة أن يكون بنوه مثله، لهذا جعل القرآن من أصناف المتقين: كما قال تعالى:(والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله؟ ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) (آل عمران:135).
كما فرق القرآن بين كبائر الإثم وفواحشه، وبين صغائر السيئات ولمم الذنوب التى قلما يسلم منها أحد، فهى فى دائرة المسامحة والغفران ما اجتنبت الموبقات قال تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريمًا) (النساء:31).
ومن واقعية الأخلاق الإسلامية أنها قدرت للضرورات قدرها، وراعت الأعذار والظروف المخففة، ولم تتزمت تزمت المثاليين المتطرفين الذين لا يقبلون أى استثناء. ولهذا بعد أن ذكر القرآن محرمات الأطعمة، عقب عليها بقوله تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) (البقرة:173).