هذه المسألة ليست من أمر الدين في شيء , ومنهم من ينقل رواية عن الإمام مالك في هذا فإذا صحت الرواية عن الإمام مالك فهو لا يقصد بها الحظر الشرعي بمعنى أنه يقول : إن إخبار الإنسان بعمره محرم أو مكروه شرعًا ، كلا إنها مسألة أدبية , وكانوا لا يرون من الأدب ولا من الذوق أن يسأل الإنسان عن عمره أو عن ماله أو أن يخبر هو بذلك بغير سبب ، كما هو مذكور في كتب الأدب والمحاضرة , ولا يزال كثير من الناس لا سيما الشيوخ في البلاد الإسلامية على هذا الرأي أو الذوق , ويختلف سببه باختلاف الأشخاص , ولعل الشيوخ يحبون أن يكونوا دائمًا على مقربة من عصر الشباب , وقلما يوجد شاب يحب أن يظن أن سنه أكثر مما هي في الواقع ، إلا إذا توهم أن في ذلك نقصًا من مهابته كأن يكون ذا منصب أصابه في سن الصبا , ويرى أن الناس لو علموا بسنه لاستكثروه عليه كما جرى للقاضي يحيى بن أكثم .

فقد نقل ابن خلكان عن تاريخ بغداد للخطيب أن يحيى بن أكثم ولي قضاء البصرة وسنه عشرون سنة أو نحوها فاستصغره أهل البصرة , فقالوا : كم سن القاضي ؟ فعلم أنه قد استُصغِر فقال : أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به النبي صلى الله عليه وسلم قاضيًا على مكة يوم الفتح ، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به النبي صلى الله عليه وسلم قاضيًا على اليمن ، وأنا أكبر من كعب بن سور الذي وجه به عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاضيًا على أهل البصرة ، فجعل جوابه احتجاجًا .

وجملة القول أنهم كانوا لا يستحسنون أن يسأل المرء عن عمره أو ماله أو يخبر هو به , وما كانوا يقولون ذلك إلا لحاجة , وأن الإحساس الذي كان عند الشيوخ فيما يظن هو أن ذلك السن يستلزم تذكر الموت وقرب الرحيل , وأما إحساس الشبان فهو ما ذكرناه آنفًا من توهم الاستصغار ، وهذا هو السبب في الاختلاف في تحديد أعمار أكثر العلماء والعظماء , وعدم الجزم بتاريخ مواليدهم وبناء تاريخهم على وفياتهم .

فإن قيل : إن الكاملين من الأئمة والفضلاء يجلون عن كتمان أعمارهم لمثل هذا الإحساس ، نقول : نعم , ولكنهم يجارون من يعاشرون على ما يستحسنون ويستقبحون ما لم يخل بالمصلحة كما قلتم ؛ لأنه من آداب المعاشرة العامة , والمروءة تختلف باختلاف عرف الناس ، ألا ترى أن أكثر أهل المشرق يرون كشف الرأس في المحافل مخلاًّ بالمروءة , ويرى عكس ذلك الإفرنج ومن قلّدهم في آدابهم .