صح في الحديث أن الله اختص الصيام بنفسه ، وقد تكلم العلماء في سبب ذلك ، فكان مما قالوه : إن الصيام لا يعلم أجره إلا الله ، وأن الصائم يعطى أجره بغير حساب ؛ لأن الصيام من الصبر ، وقد قال الله تعالى : ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) ، ومما قالوه أيضا : إن الصيام لا يدخل في المقاصة التي تحصل بين العباد ، ولكن الله يرضي عن الصائم خصماءه يوم القيامة ، وهذا يكون لمن حسن صيامه .
قال العلامة ابن رجب الحنبلي في لطائفه :-
ثبت في الصحيحين ” عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال : كل عمل ابن آدم له ، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال عز و جل : إلا الصيام فإنه لي و أنا الذي أجزي به ، إنه ترك شهوته و طعامه و شرابه من أجلي ، للصائم فرحتان : فرحة عند فطره و فرحة عند لقاء ربه ، و لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك .
و في رواية : ” كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي ” . و في رواية للبخاري : ” لكل عمل كفارة ، و الصوم لي و أنا الذي أجزي به ” .
و خرجه الإمام أحمد من هذا الوجه و لفظه : ” كل عمل ابن آدم له كفارة إلا الصوم و الصوم لي و أنا أجزي به ” .
فعلى الرواية الأولى : يكون استثناء الصوم من الأعمال المضاعفة فتكون الأعمال كلها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام ، فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد بل يضاعفه الله عز و جل أضعافاً كثيرة بغير حصر عدد ، فإن الصيام من الصبر و قد قال الله تعالى : ” إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ” .
و لهذا ورد عن النبي صلى الله عليه و سلم : ” أنه سمى شهر رمضان شهر الصبر .
و في حديث آخر عنه صلى الله عليه و سلم قال : ” الصوم نصف الصبر ” . خرجه الترمذي .
و الصبر ثلاثة أنواع : صبر على طاعة الله ، و صبر عن محارم الله ، و صبر على أقدار الله المؤلمة .
و تجتمع الثلاثة في الصوم فإن فيه صبراً على طاعة الله ، و صبراً عما حرم الله على الصائم من الشهوات ، و صبراً على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع و العطش، و ضعف النفس و البدن ، و هذا الألم الناشىء من أعمال الطاعات يثاب عليه صاحبه كما قال الله تعالى في المجاهدين : ” ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ” .
و في الطبراني ” عن ابن عمر مرفوعاً : الصيام لا يعلم ثواب عمله إلا الله عز و جل ” . و روي مرسلاً و هو أصح.
إن مضاعفة الأجر للأعمال تكون بأسباب منها شرف المكان المعمول فيه ذلك العمل كالحرم ، و لذلك تضاعف الصلاة في مسجدي مكة و المدينة كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ” صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ” . و في رواية : ” فإنه أفضل ” ، و كذلك روي : ” أن الصيام يضاعف بالحرم ” . و في سنن ابن ماجة بإسناد ضعيف ” عن ابن عباس مرفوعاً : من أدرك رمضان بمكة فصامه و قام منه ما تيسر كتب الله له مائة ألف شهر رمضان فيما سواه ” ، و ذكر له ثواباً كثيراً .
و منها : شرف الزمان كشهر رمضان ، و عشر ذي الحجة ، و في الترمذي ” عن أنس : سئل النبي صلى الله عليه و سلم أي الصدقة أفضل ؟ قال : صدقة في رمضان .
و في الصحيحين ” عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : عمرة في رمضان تعدل بحجة ” ، أو قال : ” حجة معي ” . و ورد في حديث آخر : ” أن عمل الصائم مضاعف ” . و ذكر أبو بكر بن أبي مريم عن أشياخه أنهم كانوا يقولون : إذا حضر شهر رمضان فانبسطوا فيه بالنفقة فإن النفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله ، و تسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة في غيره .
قال النخعي : صوم يوم من رمضان أفضل من ألف يوم ، و تسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة ، وركعة فيه أفضل من ألف ركعة ، فلما كان الصيام في نفسه مضاعفاً أجره بالنسبة إلى سائر الأعمال كان صيام شهر رمضان مضاعفاً على سائر الصيام لشرف زمانه .
وكونه هو الصوم الذي فرضه الله على عباده ، و جعل صيامه أحد أركان الإسلام التي بني الإسلام عليها.
و قد يضاعف الثواب بأسباب أخر منها شرف العامل عند الله و قربه منه، و كثرة تقواه كما يضاعف أجر هذه الأمة على أجور من قبلهم من الأمم و أعطوا كفلين من الأجر .
و أما على الرواية الثانية : فاستثناء الصيام من بين الأعمال يرجع إلى أن سائر الأعمال للعباد، و الصيام اختصه الله تعالى لنفسه من بين أعمال عباده وأضافه إليه .
وأما على الرواية الثالثة : فالاستثناء يعود إلى التكفير بالأعمال ، و من أحسن ما قيل في ذلك ما قاله سفيان بن عيينة رحمه الله قال : هذا من أجود الأحاديث و أحكمها : ” إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده ، و يؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله حتى لا يبقى إلا الصوم فيتحمل الله عز و جل ما بقي عليه من المظالم و يدخله بالصوم الجنة . خرجه البيهقي في شعب الإيمان و غيره .
وعلى هذا فيكون المعنى : أن الصيام لله عز و جل فلا سبيل لأحد إلى أخذ أجره من الصيام بل أجره مدخر لصاحبه عند الله عز و جل .
وحينئذ فقد يقال : إن سائر الأعمال قد يكفر بها ذنوب صاحبها فلا يبقى لها أجر فإنه روي : ” أنه يوازن يوم القيامة بين الحسنات و السيئات ، و يقص بعضها من بعض فإن بقي من الحسنات حسنة دخل بها صاحبها إلى الجنة ” ، قاله سعيد بن جبير و غيره .
و فيه حديث مرفوع خرجه الحاكم من حديث ابن عباس مرفوعاً فيحتمل أن يقال في الصوم . إنه لا يسقط ثوابه بمقاصة ولا غيرها بل يوفر أجره لصاحبه حتى يدخل الجنة فيوفى أجره فيها .
وأما قوله : ” فإنه لي ” فإن الله خص الصيام بإضافته إلى نفسه دون سائر الأعمال و قد كثر القول في معنى ذلك من الفقهاء و الصوفية و غيرهم ، و ذكروا فيه وجوهاً كثيرة . ومن أحسن ما ذكر فيه وجهان :-
أحدهما : أن الصيام هو مجرد ترك حظوظ النفس و شهواتها الأصلية التي جبلت على الميل إليها لله عز و جل ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام ؛ لأن الإحرام بالحج إنما يترك فيه الجماع و دواعيه من الطيب دون سائر الشهوات من الأكل والشرب ، و كذلك الاعتكاف مع أنه تابع للصيام .
وأما الصلاة فإنه وإن ترك المصلي فيها جميع الشهوات إلا أن مدتها لا تطول فلا يجد المصلي فقد الطعام والشراب في صلاته ، بل قد نهي أن يصلي ونفسه تشوق إلى طعام بحضرته حتى يتناول منه ما يسكن نفسه . و لهذا أمر بتقديم العشاء على الصلاة .
و هذا بخلاف الصيام فإنه يستوعب النهار كله فيجد الصائم فقد هذه الشهوات ، وتشوق نفسه إليها خصوصاً في نهار الصيف لشدة حره و طوله .
ولهذا روي : ” أن من خصال الإيمان الصوم في الصيف ” . و قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم رمضان في السفر في شدة الحر دون أصحابه كما قاله أبو الدرداء : كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم في رمضان في سفر و أحدنا يضع يده على رأسه من شدة الحر و ما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم وعبد الله بن رواحة .
وفي الموطأ : إنه صلى الله عليه و سلم كان بالعرج يصب الماء على رأسه و هو صائم من العطش أو الحر . فإذا اشتد توقان النفس إلى ما تشتهيه مع قدرتها عليه ثم تركته لله عز و جل في موضع لا يطلع عليه إلا الله كان ذلك دليلاً على صحة الإيمان ؛ فإن الصائم يعلم أن له رباً يطلع عليه في خلوته ، و قد حرم عليه أن يتناول شهواته المجبول على الميل إليها في الخلوة فأطاع ربه ، و امتثل أمره ، و اجتنب نهيه خوفاً من عقابه ، و رغبة في ثوابه ، فشكر الله تعالى له ذلك و اختص لنفسه عمله هذا من بين سائر أعماله .
الوجه الثاني : إن الصيام سر بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره ؛ لأنه مركب من نية باطنة لا يطلع عليها إلا الله ، وترك لتناول الشهوات التي يستخفي بتناولها في العادة .
ولذلك قيل : لا تكتبه الحفظة ، و قيل : إنه ليس فيه رياء . كذا قاله الإمام أحمد و غيره .
انتهى ملخصا من كتاب : لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي .
والله تعالى أعلم.