مر تحويل القبلة بمراحل كثيرة، وفي كل مرة كان درسا لأصحاب النبي – ﷺ -وللمسلمين من بعدهم .
يقول فضيلة الشيخ عطية صقر-رحمه الله تعالى- رئيس لجنة الفتوى بالأزهر عن مراحل تحويل القبلة والدروس المستفادة منها :
روى أحمد بن حنبل عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ ﷺ ـ قال : “إن اليهود لا يَحْسُدُونَنا على شيء كما يَحْسُدُونَنا على يوم الجمعة التي هدانا الله إليها وضلُّوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله إليها وضلُّوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام آمين.
على عادة اليهود في الأَثَرَة والأنانِيَةِ النَّابعة من العنصرية الجامحة المعروفة فيهم كانوا يحبون أن يكون كلُّ مَجْدٍ لهم، سواء في ذلك المجد الديني والدنيوي، كما جعل الله فيهم الأنبياء وجعلهم ملوكًا. قال تعالى (وإذْ قالَ موسَى لقومِهِ يا قَومِ اذكُروا نعمةَ اللهِ عليكُم إذْ جَعَلَ فيكُم أنبياءَ وجعلَكُم ملُوكًا وآتاكُم ما لم يُؤتِ أحدًا من العالمين) (سورة المائدة: 20)، ولما سمعوا بظهور سيدنا محمد ـ ﷺ ـ في مكة كانوا يستفتحون به على أهل المدينة، لكنهم أَبَوْا الانضمام إليه؛ لأنه من نسل عمِّهم إسماعيل دون أبيهم إسحاق.
وقد حدَث أن الله سبحانه أمر نبيه ـ ﷺ ـ باستقبال بيت المقدس في الصلاة، وظلَّ على ذلك نحو سنة ونصف السنة بالمدينة، ثم صَرَفَهُ الله عن هذه القبلة إلى استقبال الكعبة، فقال اليهود: اشتاق محمد إلى بلد أبيه بمكة، وهو يريد أن يُرضِي قومه قريشًا ولو ثَبَتَ على قبلتِنا لرجونا أن يكون هو النبي الذي يأتي آخر الزمان.
وهذا القول منهم يدل على أنهم انتهازيون لا يَجْرُون إلا وراء المصلحة، دون اعتبار للعقائد والقيم، فهم كفروا بالرسول لمجرد أنه حوَّل وَجْهَهُ ـ بأمر ربه ـ إلى البيت الحرام، ناسين أن الأرض كلها لله، وأن الجهات جميعها واحدة بالنسبة لوجود الله واطِّلاعه على عباده والتوجُّه إليه بالطاعة، قال تعالى (وللهِ المشرقُ والمغربُ فأينمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللهِ) (سورة البقرة: 115)، وقال في حقِّهم (سيقولُ السفهاءُ مِنَ الناسِ مَا وَلَّاهُم عَن قبلتِهِمُ التِي كانُوا عليهَا، قُلْ للهِ المَشرِقُ والمغرِبُ يَهدِي مَن يشاءُ إلى صراطٍ مُستقيمٍ) (سورة البقرة: 142).
وندَّد الله بهم في كفرهم بمحمد ـ ﷺ ـ على الرغم من الأخبار المُبشِّرة به فقال: (وإنَّ الذينَ أُوتُوا الكتابَ لَيَعلمُون أنَّهُ الحقُّ مِن ربِّهِم) (سورة البقرة: 144)، وقد أَيْأَسَهُ الله من إيمانهم به ما دامتْ قبلته للصلاة غير قبلتهم فقال (ولَئِنْ أَتَيْتَ الذينَ أُوتُوا الكتابَ بِكلِّ آيةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ومَا أنتَ بتابعٍ قِبْلَتَهُم، ومَا بعضُهُم بتابعٍ قِبْلَةَ بعضٍ) (سورة البقرة: 145) ومن هنا انقطع أملُهم في ضمِّ محمد ـ ﷺ ـ، فجاهَرُوه بالعداوة، وكانت له معهم الْتحامات وقصص مذكورة في كتب التاريخ.
إن بيت المقدس لم يتخذْه بنو إسرائيل قِبلةً تبعًا لوحي من الله، بل باختيار منهم على ما يذكره المحقِّقون. والحديث المذكور يدل على أن الصخرة التي يستقبلونها لم يؤمروا بها من الله بعينها، فإن القبلة الحقيقية هي أول بيت وضع للناس في مكة، روى أبو داود في الناسخ والمنسوخ عن خالد بن يزيد بن معاوية قال: لم تجد اليهود في التوراة القبلة، ولكن تابوت السكينة كان على الصخرة، فلمَّا غضب الله على بني إسرائيل رفعه، وكانت صلاتهم إلى الصخرة عن مشورة منهم.
وفي البغوي عند تفسير قوله تعالى (واجْعَلُوا بُيُوتَكُم قِبْلَةً) (سورة يونس : 87) روى ابن جُريج عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كانت الكعبة قبلة موسى ومَن معه وبه قطع الزمخشري والبيضاوي، قال النَّسفي في تفسير هذه الآية: اجعلوا بيوتكم مساجد متوجِّهة إلى القبلة وهي الكعبة، وكان موسى ومَن معه يُصلُّون إلى الكعبة.
وكما ضلُّوا عن القبلة ضلُّوا عن الجمعة؛ لأن الله فَرَضَ عليهم يومًا من الأسبوع وَكَلَهُ إلى اختيارهم، فاختلفوا ولم يهتدوا إلى الجمعة. قال الطبري عن مجاهد في قوله تعالى (إنَّما جُعِلَ السبتُ علَى الذينَ اختلفُوا فيهِ) (سورة النحل : 124) قال: أرادوا الجمعة فأخطأوا وأخذوا السبت مكانه. وروى ابن أبي حاتم عن السُّدي التصريح بأنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه فقال: إن الله فرض على اليهود الجمعة فأبوا وقالوا: يا موسى إن الله لم يَخلُق يوم السبت شيئًا فاجعله لنا، فجعله عليهم، وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم، كما وقع لهم في قوله: (وادْخُلُوا البابَ سُجَّدًا وقُولُوا حِطَّةٌ) (سورة البقرة : 58) فغيَّروا وبدلوا.
واستطرادًا للحديث في شأن القبلة وتحويلها أتناول الموضوع في عدة نقاط، تنويرًا للأذهان وعونًا على الوصول إلى الحقيقة في فهم حكمة التشريع:
1 ـ كل أمة من الأمم لهم مكان مقدس تتعبَّد فيه بكل أنواع العبادة من صلاة وحَجٍّ وذَبح وغير ذلك، قال تعالى: (لِكُلِّ أُمةٍ جعلْنَا مَنسَكًا هُم ناسِكُوه) (سورة الحج: 67) وقال تعالى: (ولِكُلِّ أُمةٍ جعلْنَا مَنسَكًا ليذكُروا اسمَ اللهِ علَى مَا رزَقَهُم مِن بَهيمةِ الأنعامِ) (سورة الحج: 34) وسواءٌ أكان هذا الجَعْل تَشريعًا من الله أراده ورَضِيَه لعباده، أم جَعْل تكوين لا يُشتَرط أن يكون مَرضيًّا عنه، كما في قوله تعالى: (كذَلِكَ زينَّا لكلِّ أُمةٍ عملَهُم ثُمَّ إلَى ربِّهِم مرجِعُهُم) (سورة الأنعام: 108) فإن لكل جماعة من الناس مكانًا مُقدَّسًا يتقرَّبون فيه إلى إلههم، ومن التقرب التوجُّه إليه عند الدعاء والصلاة.
والوثنيون كانوا يتوجَّهون إلى أصنامهم في الأرض، أو إلى الكواكب في السماء، كما توجَّه المصريون إلى الشمس في بعض عهودهم في الدعاء والمناجاة، وكما توجَّه البابليون إلى النجوم على ما حكاه القرآن الكريم في مُحاجَّة إبراهيم لهم في سورة الأنعام، حيث رأى كوكبًا ثم رأى القمر ثم رأى الشمس وافترض أنها هي الإله الذي يعبدونه فلما غابت ألزمهم الحُجَّة بأن الإله لا يجوز أن يَغيب. ثم بَنَوْا بُيوتًا رمزية ـ لآلهتهم يعبدونها فيها عند اختفائها وقت غروبها، فكانت البيوت قِبْلتهم ومَنْسكَهم الذي يرتضون.
2 ـ أول بيت وُضع للعبادة هو بيت الله الحرام في مكة “الكعبة” قال تعالى: (إنَّ أوَّلَ بيتٍ وُضِعَ للناسِ للذِي ببكَّةَ مباركًا وهدىً للعالمين) (سورة آل عمران: 96)، وكما تقول الروايات إنه موضوع من أيام آدم عليه السلام، وكانت الأنبياء تَحُجُّ إليه، وكان دور إبراهيم ـ عليه السلام ـ إبراز معالمه التي عفَّى عليها الزمن أو جَرَفَتْها السُّيول على ما يُفهَم من التعبير بالرَّفع في قوله تعالى: (وإذْ يَرفعُ إبراهيمُ القواعِدَ مِنَ البيتِ وإسماعيلُ) (سورة البقرة: 127) وقوله تعالى: (وإذْ بَوَّأْنَا لإبراهيمَ مكانَ البيتِ) (سورة الحج: 26) أي: البيت المعهود سابقًا في التاريخ، أو الذي سيُبني بعدُ، ذلك جائز محتمَل.
والحديث الصحيح وَرَدَ في أن أول بيت وُضِعَ في الأرض هو الكعبة ثم المسجد الأقصى، وبينهما أربعون سنة. فإن كان الوضع يَعني الاختيار للعبادة ـ وهو الظاهر ـ كان ذلك الاختيار من الله موجودًا قبل إبراهيم بالنسبة للكعبة وقبل سليمان وداود بالنسبة للمسجد الأقصى.
وإن كان الوضْع يَعني الإقامة والبناء فإن المسافة بين بناء إبراهيم للكعبة وبين بناء المسجد الأقصى وهي أربعون سنة لا تكون إلا إذا قيل: إن الأنبياء بعد إبراهيم شَرَعُوا في بناء المسجد الأقصى على عهد يعقوب بن إسحاق كما قال بعض الباحثين، ولم يتمَّ إلا في عهد سليمان الذي كان أبوه داود معتزِمًا بناءه، لكن الله لم يوفِّقه لذلك، وادَّخره لابنه سليمان كما تَحكى التوراة.
وقد تَقدَّم في ذلك ما نقله البغوي عن ابن جُريج عن ابن عباس وما قرَّره المفسرون من أن الكعبة كانت قبلة موسى ومَن معه. وقال أبو داود في الناسخ والمنسوخ في قوله تعالى: (إنَّ أوَّلَ بيتٍ وُضِعَ للناسِ للَّذِي بِبكَّةَ) قال: أَعْلَمَ قبلتَه فلم يبعث نبي إلا وقبلته البيت، وهذا القول قوَّاه الحافظ العلائي فقال في تذكرته: الراجح عند العلماء أن الكعبة قبلة الأنبياء كلهم كما دلت عليه الآثار.
قال بعضهم وهو الأصحُّ، ويؤكِّد هذا الرأي حديث حسد اليهود لنا إذا هدانا الله إلى القبلة وضلُّوا عنها، فقد كانت الكعبة قبلتهم لكنهم لم يهتدوا إليها.
غير أن ابن العربي وتلميذه السُّهيلي اختارا أن قبلة الأنبياء هي بيت المقدس، وصحَّحه بعضهم وقال إنه المعروف. لكن هذا يمكن أن يُحمل على أن بيت المقدس هو قبلة الأنبياء بعد بناء الهيكل في عهد سليمان، ارتضَوها بعد أن ضلُّوا عن الكعبة، وأمر نبيه محمدًا ـ ﷺ ـ أول الأمر بالتوجُّه إلى بيت المقدس وهو ما يزال في مكة على ما سيأتي بيانه. وقد تَقدَّم أنهم كانوا يستقبلون الصخرة التي كان عليها تابوت السكينة حتى بُنِيَ المسجد الأقصى .
ونظرًا إلى أن المسيحية مُكمِّلة لليهودية جاءت مُصلِحةً لليهود وداعية للعودة إلى أصولها الحقيقية كانت قبلتها هي قبلة اليهود في المسجد الأقصى.
3 ـ فُرِضَت الصلاة في الإسلام أولاً بمكة، واستقرت خمس صلوات ليلة الإسراء قبل الهجرة بحوالي سنتين أو أكثر، فإلى أية قبلة كانوا يتجه المصلون بمكة ؟ قيل: لم تكن هناك قبلة معينة، فالجهات كلها قبلة على ما فهمه البعض من قوله تعالى: (وللهِ المشرِقُ والمغرِبُ فأينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وجهُ اللهِ) (سورة البقرة: 115)، وإن كان هناك مَيْل إلى التوجُّه إلى الكعبة لأنها بيت المقدس عند العرب، وهو أَثَرُ سيدنا إبراهيم الذي قال الله له في إحدى السور المكية: (ثُمَّ أوحينَا إليكَ أنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبراهيمَ حنيفًا) (سورة النحل : 123) على ما يفيده عموم اللفظ، وكما حَكَت السيرة أن النبي ـ ﷺ ـ اختار التحنُّث في غار حِراء؛ لأنه يشرف على الكعبة.
وقيل: إن قبلة المسلمين في مكة كانت الكعبة أولاً، لقوله تعالى: (ومَا جعلْنَا القبلةَ التِي كُنْتَ عليهَا) (سورة البقرة: 143) أي حوَّلناك في المدينة من بيت المقدس إلى الكعبة وهي القبلة التي كنت عليها من قبل، فهذا نص على أن القبلة في مكة كانت الكعبة، لكن ذلك كان لفترة. ويدل عليه ما أخرجه الطبري عن ابن جُريج: صلَّى النبي ـ ﷺ ـ أو ما صلَّى إلى الكعبة ثم صُرِفَ إلى بيت المقدس وهو بمكة، فصلَّى ثلاث حِجَج، ثم هاجر فصلَّى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرًا، ثم وُجِّه إلى الكعبة.
وقيل: إن القبلة في مكة كانت بيت المقدس أولاً، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي رواه أحمد: كان النبي ـ ﷺ ـ يُصلِّي بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه، لكن هل يدل هذا على أن بيت المقدس كان هو القبلة الأولى في مكة وكان النبي يحب أن يستقبل معه الكعبة، فيجعلها بينه وبين بيت المقدس ليجمع بين القبلتين، أو أن بيت المقدس كان قبلة لاحقة بعد أن كانت هي الكعبة؟ ذلك كله جائز.
ولعل من التوفيق القريب بين الأحاديث التي يتضارب ظاهرها أن يقال: إن النبي ـ ﷺ ـ صلَّى بمكة أولاً إلى الكعبة، ثم صُرِفَ عنها إلى بيت المقدس ثلاث حجج، فكان يُحبُّ أن يجمع بينهما على النحو المذكور، ولما هاجر أَمَرَهُ الله بالاستمرار في استقبال بين المقدس، وكان يشتاق لاستقبال الكعبة نحو سنة ونصف السنة فُوجِّه بعد ذلك إليها.
4ـ هل كانت قبلته في مكة (الكعبة أو بيت المقدس) بوحي من الله أو باجتهاد منه؟
أما استقبال الكعبة فقيل إنه بِوَحْي، على ما يُفهم من قوله تعالى: (ومَا جعلْنَا القبلةَ التِي كنتَ عليهَا) فالتي كان عليها هي الكعبة، لكن هل كان هذا بأمر من الله أم باجتهاد من الرسول أقره عليه؟ لم يَرِدْ في ذلك نصٌّ واضح صريح. وقيل إنه باجتهاد على ما سبق بيانه من اقتفائه أثر أبيه إبراهيم، وتقديسه للبيت الذي يقدِّسه كل العرب ولتحرِّي النظر إليه في خلوته بغار حِراء.
وأما استقبال بيت المقدس في مكة، فقيل بِوحي، على ما تفيده رواية الطبراني عن ابن جُريج أن النبي ـ ﷺ ـ صلَّى أولاً بمكة إلى القبلة، ثم صرفه الله إلى بيت المقدس. وقيل إنه باجتهاد كما قال القاضي عياض: الذي ذهب إليه أكثر العلماء أنه كان بسُنَّة لا بقرآن. وحكى الوجهين الماوردي في “الحاوي”.
5 ـ والصلاة التي صلَّاها الرسول عند مَقْدِمَهُ إلى المدينة متوجِّها إلى بيت المقدس، هل كانت بِوحي أم باجتهاد؟
ذلك راجع إلى الكلام في استقبال بيت المقدس بمكة، فهو مستصحب للقبلة في مَهْجَرِه.
أ ـ الراجح أنه كان بوحي لما رواه ابن جرير الطبري عن ابن عباس، قال: لمَّا هاجر النبي ـ ﷺ ـ إلى المدينة واليهود أكثرهم يستقبلون بيت المقدس أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس. ففرحت اليهود لظنهم أنه استقبله اقتداء بهم، مع أنه كان لأمر ربه، فاستقبلها سبعة عشر شهرًا، وكان يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم. وروى الطبري أيضًا عن ابن عباس قال: إنما أحب النبي أن يتحوَّل إلى الكعبة، فكان يدعو ربه (كما نصح بذلك جبريل عندما قال له: وددت أن الله صَرَفَ وجهي عن قبلة يهود، فقال له جبريل: إنما أنا عبد، فادعُ ربَّك وسَلْهُ) وكان ينظر إلى السماء فنزلت (قدْ نَرَى تقلُّب وجهِكَ في السماءِ فلنوَلينَّكَ قِبلةً ترضَاهَا فَوَلِّ وجهَكَ شَطْرَ المسجدِ الحرامِ وحيثُما كنتم فولُّوا وجوهَكُم شَطْرَهُ) (سورة البقرة: 144)، وهذا ما عليه الجمهور كما قال القرطبي، ولحديث البراء بن عازب عند البخاري في كتاب الإيمان: أن النبي ـ ﷺ ـ قِبَلَ بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يُعْجِبُهُ أن تكون قبلته قِبَل البيت. فاستقباله للبيت المقدس مع شوقه لقبلة إبراهيم دليل على أنه أمر من الله.
ب ـ وقيل إن استقباله لبيت المقدس بالمدينة كان باجتهاد منه، كما قال الحسن البصري، وكما قال الطبري: كان محمد( ﷺ ) مُخيَّرًا بينه وبين الكعبة، فاختاره طمعًا في إيمان اليهود. لكن يرده سؤاله لجبريل، إذ لو كان مُخيَّرًا لاختار الكعبة دون حاجة إلى سؤال جبريل أن يصرف إليها.
6 ـ كم من الزمن صلى النبي ـ ﷺ ـ بالمدينة إلى بيت المقدس؟
جاءت الروايات مختلفة في ذلك، وهي كلها ليست من كلام الرسول، بل من كلام الصحابة، فقيل ستة عشر شهرًا، وقيل سبعة عشر، وقد جاء ذلك في روايتين للبخاري ومسلم عن البراء بن عازب ، وقيل تسعة عشر شهرا، وقيل بضعة عشر بدون تحديد لمقدار البضع، والاختلاف راجع إلى الخلاف في تعيين الشهر الذي حولت فيه القبلة، مقيسًا بشهر الهجرة إلى المدينة، وبحساب جملة من أيام الشهر شهرًا، أو بغير ذلك من الاعتبارات.
7 ـ في أي شهر وفي أي يوم حُوِّلت القبلة؟ هنالك أقوال :
أ ـ قيل إنها حُوِّلت في منتصف شهر رجب من السنة الثانية، وكان ذلك يوم الاثنين، وقد رواه أحمد عن ابن عباس بإسناد صحيح، قال الواقدي: وهذا أثبت، قال الحافظ: وهو الصحيح، وبه جزم الجمهور، وقاله ابن إسحاق.
ب ـ وقيل إن التحويل كان في شهر جمادي الآخرة، كما رواه الزُّهْري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك. قال أبو جعفر النحاس في كتابه “الناسخ والمنسوخ”: وهو أَوْلاها بالصواب؛ لأن الذي قال به أَجَلُّ، ولأن رسول الله ـ ﷺ ـ قَدِمَ المدينة في شهر ربيع الأول، فإذا صُرِفَ آخر جمادى الآخرة إلى الكعبة صار ذلك ستة عشر شهرًا كما قال ابن عباس. وأيضًا إذا صلَّى إلى الكعبة في جمادى الآخرة فقد صلَّى إليها فيما بعدها.
جـ ـ وقيل في نصف شعبان وفي يوم الثلاثاء منه. قاله محمد بن حبيب، وجَزَمَ به في الروضة، وقاله الواقدي.
8 ـ ما هي الصلاة التي صلَّاها النبي ـ ﷺ ـ بقبلتين. وما هي أول صلاة كاملة للقبلة الجديدة؟
كان النبي ـ ﷺ ـ يزور أم بشر بن معرور بعد موت بشر، فلما حان وقت صلاة الظهر صلَّى بأصحابه ركعتين، ثم أمر بتحويل القبلة، فتحول في ركوع الركعة الثالثة، وسمَّي هذا المسجد مسجد القبلتين؛ لأن التحويل نزل فيه أولاً. وكان في بني سلِمة ـ بكسر اللام في شرح الزرقاني على المواهب، وضبطت في تفسير القرطبي بفتحها ـ وهي أول صلاة صلَّاها، وهو الأثبت كما قال الواقدي. وكانت هذا الصلاة هي الظهر على ما رواه النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى، وكذا عند الطبراني والبزار من حديث أنس. فهذا الحديث يدل على أن مكان التحويل هو مسجد بني سلمة “مسجد القبلتين” وأن الصلاة هي الظهر قال ابن سعد: صلَّى النبي ـ ﷺ ـ ركعتين من الظهر في مسجده النبوي بالمسلمين.
وقال بعضهم إن الصلاة هي العصر، مستدلين برواية البراء بن عازب في البخاري في كتاب الإيمان: أن النبي ـ ﷺ ـ صلَّى أول صلاة صلاها صلاة العصر ـ أي متوجها إلى الكعبة. لكن هذا يدل على أنها صُلِّيت بقبلتين، والأقرب أنها بقبلة واحدة هي الكعبة، وكانت أول صلاة تامَّة بعد التحويل إلى الكعبة، ويبقى ادِّعاء أن صلاة الظهر هي التي أديت بقبلتين باقيًا دون معارض.
قال ابن حجر في كتاب الإيمان : التحقيق أن أول صلاة صلاها في بني سلمة لما مات بشر بن البراء بن معرور هي الظهر، وأول صلاة صلاها بالمسجد النبوي هي العصر.
9 ـ ما هي الصلاة التي صلَّاها المسلمون الذين لم يكونوا مع الرسول ـ بقبلتين، وأين كانت ؟
إن خبر التحويل وصل كل جماعة في مواعيد مختلفة، ولعل عددًا من الجماعات وقع منهم صلاة لقبلتين، قد تكون هي العصر وقد تكون غيرها .
ومن الثابت ما يلي :
1 ـ صلاة العصر كانت بقبلتين وكانت في بني حارثة، دليله حديث البراء بن عازب: صليت مع النبي ـ ﷺ ـ إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا ـ وفي رواية له سبعة عشر شهرًا ـ حتى نزلت الآية التي في البقرة (وحيثُما كنتُم فَوَلُّوا وجوهَكُم شَطْرَهُ) فنزلت بعدما صلَّى النبي، فانطلق رجل من القوم فمرَّ بناس من الأنصار وهم يصلون، فحدثهم فَوَلَّوا وجوههم قبل البيت. رواه البخاري ومسلم.
وقوله : “بعدما صلَّى” فسَّره الشرَّاح بأنه دخل في الصلاة، لا أنه انتهى منها، وقالوا : إنها صلاة الظهر وقد صلَّى منها ركعتين. وقال بعضهم إنها صلاة العصر، كانت في مسجد بني سلمة. والرجل الذي نقل الخبر قيل: اسمه عبَّاد بن بشر بن قَيْظِي “القرطبي ـ سيقول السفهاء” كما رواه ابن منده وابن أبي خيثمة، وقيل : اسمه عَبَّاد بن نَهِيك.
والناس الذين أخبرهم هم بنو حارثة وكانوا يُصلُّون العصر. وعلى القوْل بأن الصلاة التي كان يصليها الرسول وحُوِّل فيها هي العصر يمكن أن يُنقل خبرها بسرعة إلى جماعة آخرين هم بنو حارثة ما زالوا في الصلاة، سواء أكان عبَّاد بن بشر ناقل الخبر صلَّى مع النبي ـ وهو الغالب ـ أم لم يصلِّ ورأى حاله فأبلغها إلى غيره.
2 ـ صلاة الفجر أو الصبح كانت بقبلتين، وكانت في “قباء” موطن بني عمرو بن عوف. وقد نُصَّ عليها في حديث ابن عمر: بينما الناس ـ بنو عمرو بن عوف ـ في صلاة الصبح بقُباء إذ جاءهم آتٍ فقال: إن رسول الله ـ ﷺ ـ قد أُنزل عليه الليلة، وقد أُمِرَ أن يَستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. رواه البخاري ومسلم. والشخص الذي أخبرهم قيل: هو رجل من بني سلمة كما يدل عليه حديث أنس الآتي وهو الأصح، واسمه عبَّاد كما تقدم.
يقول أنس ـ رضي الله عنه ـ: كان رسول الله ـ ﷺ ـ يُصلِّي نحو بيت المقدس فنزلت: (قدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السماءِ …) فمرَّ رجل من بني سلمة وهم ركوع في الفجر وقد صلوا ركعة فنادى: ألا إن القبلة قد حُوِّلت، فمالوا كما هم نحو القبلة. رواه مسلم غير أن رواية أنس لا تدل على أن هؤلاء كانوا في قباء.
3 ـ صلاة الظهر: فقد ذكر أبو عمرو في “التمهيد” عن نويلة بنت أسلم ـ وكانت من المبايعات ـ قالت : كنا في صلاة الظهر فأقبل عبَّاد ابن بشر بن قيظي فقال: إن رسول الله ـ ﷺ ـ قد استقبل القبلة، أو قال : البيت الحرام، فتَحَوَّل الرجال مكان النساء وتَحَوَّلَ النساء مكان الرجال.
هذا، ولم يُسمَّ مسجد قُباء ولا مسجد بني حارثة بمسجد القبلتين؛ لأن مسجد بني سلمة هو الذي نزلت فيه أولًا آية التحويل، وصُلِّيت فيه صلاة إلى وجهتين كان النبي إمامًا فيها.
10 ـ حكمة جعْل القبلة إلى الشام في المدينة فيها آراء :
أ ـ رأي يقول : إن ذلك تكريم من الله للنبي ـ ﷺ ـ، ليجمع له بين القبلتين، كما عدَّه السيوطي من خصائصه التي تَمَيَّز بها على الأنبياء والمرسلين، وتظهر هذه الحكمة إذا كان استقبال الشام بوحي وهو الظاهر.
ب ـ ورأي يقول : كان التوجه تأليفًا لليهود، كما قاله أبو العالية، وقد يكون ذلك مُرادًا لله بالوحي أو مرادًا للنبي باجتهاد على الخلاف في ذلك .
جـ ـ ورأي يقول : إن فيه تنبيهًا للرسول على أن المسجد الأقصى له منزلته وقداسته، فلا بُدَّ من الحفاظ على هذه المنزلة والقداسة له .
11 ـ حكمة تحويل القبلة في المدينة من الشام إلى مكة فيها وجهات نظر :
أ ـ امتحان المؤمنين الصادقين وتمييزهم عن غيرهم، كما قال سبحانه (ومَا جعلْنَا القبلةَ التي كنتَ عليهَا إلَّا لنعلَمَ مَن يتَّبعُ الرسولَ ممَّن ينقلبُ علَى عَقِبيهِ، وإنْ كانتْ لكبيرةً إلَّا علَى الذينَ هَدَى اللهُ) (سورة البقرة : 143) كما قاله ابن عباس.
ب ـ تنبيه للرسول على عدم طمعه في إيمان اليهود.
جـ ـ العودة بالدعوة إلى أصلها، وهو عالميتها القائمة على قواعد إبراهيم، دون تمييز بين أبناء إسحاق “اليهود” وأبناء إسماعيل “العرب” (مَا كانَ إبراهيمُ يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولكنْ كانَ حنيفًا مُسلمًا وما كانَ مِن المشركِينَ) (سورة آل عمران : 67) .
د ـ الإيحاء بأن مكة لا بُدَّ أن تعود إلى الإسلام، ففيها قبلة المسلمين، وأن يجاهد أهلها حتى يخضع البيت للمسلمين، وبشارة بنصر الرسول على قريش واستخلاص البيت منهم، لتطهيره من الأصنام وجعل الدين خالصًا لله.
هذا، ومن الحكمة العامة لتحديد قبلة الصلاة تجميع أهل الدين وتوحيد اتجاههم ومشاعرهم وتقوية الرابطة بينهم .
ومن الأحكام التي تتصل بالقبلة :
أ ـ أن النبي ـ ﷺ ـ نهى عن الانصراف عن التوجه إليها في الدعاء، فقد روى البخاري ومسلم عن أنس أن النبي قال: “ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم” فاشتد قوله في ذلك حتى قال: “لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم” ورواه مسلم عن أبي هريرة بلفظ “ليَنتهِينَّ أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء عند الدعاء في الصلاة أو لتُخطفَن أبصارهم” .
ب ـ عدم بَصْق المصلي أمامه، فقد ورد عن ابن عمر : بينما رسول الله ـ ﷺ ـ يخطب يومًا إذ رأى نُخَامة في قبلة المسجد، فتغيظ على الناس ثم حكَّها، قال : وأحسبه قال: فدعا بزعفران فلُطِّخت به وقال: “إن الله عز وجل قِبَلَ وجه أحدكم إذا صلَّى، فلا يبصق بين يديه” رواه البخاري ومسلم .