ذكر فضيلة الشيخ  الدكتور يوسف القرضاوي ـ في كتابه القيم الفتوى بين الانضباط والتسيب ـ الخطوات التي ينبغي للمفتي أن يتبعها من أجل أن تكون فتواه نافعة للمستفتي ومقنعة له فقال:

1ـ إن الفتوى لا معنى لها إذا لم يذكر معها دليلها، بل جمال الفتوى وروحها الدليل كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد يحوج الأمر إلى مناقشة أدلة المخالفين عند اللزوم في المسائل الهامة ليسلم ذهن السائل من تشويش المعارضات.

2 ـ ثم إن ذكر الحكمة والعلة أمر لا يستغنى عنه، وخصوصا في عصرنا، وإلقاء الفتوى ساذجة مجردة من حكمة التشريع، وسر التحليل والتحريم يجعلها جافة، غير مستساغة لدى كثير من العقول، بخلاف ما إذا عرف سرها وعلة حكمها، وقد قيل: إذا عرف السبب بطل العجب.

3ـ ومما أجده نافعا في أحوال كثيرة:المقارنة أو الموازنة بين موقف الإسلام في القضية المسئول عنها، وموقف غيره من الأديان أو المذاهب والفلسفات، فقديما قال الشاعر
والضد يظهر حسنه الضد
وقال آخر: وبضدها تتميز الأشياء

والذي أؤكده وأنا منشرح الصدر، مطمئن القلب: أن الذي يدرس الإسلام دراسة عميقة، ثم يدرس غيره من الأديان السماوية المنسوخة، أو الفلسفات الأرضية الممسوخة، يتبين له أن الإسلام لا يمكن إلا أن يكون منهج الله الخالد، ونظامه الكامل، فلا وجه للمقارنة بين وبين مناهج البشر وأنظمتهم، التي ينضح عليها قصورهم وأهواؤهم ونزعاتهم ونقصهم الذاتي.
وأين ما يصنع الإنسان مما يخلق الله؟

ألم تر أن السيف يزري بقدره إذا قيل: هذا السيف أمضى من العصا؟!

4ـ ومما ينبغي للمفتي كذلك: التمهيد للحكم المستغرب بما يجعله مقبولا لدى السائلين وقد ذكر ابن القيم أن الحكم إذا كان مما لم تألفه النفوس، وإنما ألفت خلافه، فينبغي للمفتي أن يوطئ قبله ما يكون مؤذنا به، كالدليل عليه، والمقدمة بين يديه.

وهذه هي سنة الله تعالى في كتابه العزيز، ولهذا نقرأ فيه قصة مريم في سورة آل عمران، وكيف كان رزقها يأتيها في غير وقته، وغير إبانه، حتى عجب زكريا وقال: (يا مريم أنى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب)، وكان هذا تمهيدا لقصة زكريا وزوجه، وكيف رزقهما الله يحيى، وهو شيخ كبير وامرأته عاقر.

5 ـ ومن الفتاوى ما يحرم على المستفتي أمرا كان يظن إباحته، أو يريده ويتمناه لحاجة إليه، أو تعلقه به، فينبغي هنا أن يدله على البديل الحلال، ما دمنا قد سددنا في وجهه طريق الحرام، وما من شيء حرمه الله إلا وفيما أحله ما يغني عنه.

فمن سألنا عن إيداع المال في المصارف (البنوك) بالفوائد الربوية منعناه منها حتى لا يأذن بحرب من الله ورسوله، ودللناه على المضاربة المشروعة، وهي أن يشترك اثنان أو جماعة في تجارة أو صناعة، بعضهم بالمال، وبعضهم بالخبرة والجهد، ويتقاسمون الربح أو الخسارة على حسب ما يتفقون وهو ما تقوم به الآن المصارف الإسلامية.

ومن سأل عن الاستخارة بفتح الكتاب، أو الخط على الرمل، أو نحو ذلك، بينا له حرمته، ودللناه على الاستخارة الشرعية، وهي صلاة ركعتين، يعقبها بالدعاء المأثور المعروف.
ومن سأل عن صيام يوم الجمعة بينا له كراهة إفراده، ودللناه على استحباب صوم يومي الاثنين والخميس، أو الثلاثة أيام البيض من كل شهر.

ومن سأل عن صرف الزكاة في بناء مسجد في بلاد عامرة بالمساجد، بينا له الحكم ودللناه على مصارف أهم منه للأمة مثل: نشر الدعوة الإسلامية، والوعي الإسلامي ومقاومة المخططات التي تهدم الإسلام، فهذا هو مصرف “في سبيل الله” في عصرنا كما بينت ذلك في كتابي “فقه الزكاة “.

-وهكذا حين نحرم شيئا أو نمنع من شيء، ندل على بديل مثله أو خير منه.

-وما حرم الله شيئا يضطر الناس إليه، أو يحتاجون إليه حاجة حقيقية، بل لو اضطروا إلى الحرام لعاد حلالا، فإنما أحل الله الطيبات وحرم الخبائث.

ولهذا لا يوجد حرام ممنوع، إلا وله في الواقع بديل مباح بيقين.

6 ـ ومما يحتاج إليه المفتي كثيرا ربط الحكم المسئول عنه بغيره من أحكام الإسلام، حتى تتضح عدالته، وتتبين روعته، فإن أخذ الحكم منفصلا عن غيره قد لا يعطي الصورة المضيئة لعدل الإسلام، ومحاسن شرعه.

أذكر من أمثلة ذلك: إعطاء البنت نصف نصيب أخيها الذكر من ميراث أبيها، فمن أخذ هذا الحكم وحده، ربما ظن في ذلك إجحافا بالبنت لأول وهلة، ولكن إذا نظر نظرة شاملة للأعباء العائلية، والالتزامات المالية المنوطة بكل من الابن والبنت، رأى في هذا التشريع العدل كل العدل، لأن العدل ليس هو المساواة دائما، بل هو التكافؤ بين الحقوق والواجبات.

ومثل ذلك: قطع يد السارق، فربما نظر ناظر إلى هذه العقوبة مجردة، فاعتبرها جد قاسية، ولكن إذا علم أن الإسلام يضمن لأبنائه العيش الكريم، والكفاية التامة أولا، لهذا فرض التكافل الاجتماعي من الزكاة وغيرها من موارد بيت المال، وعلم أن العلم في الإسلام فريضة، وحسن التربية واجب، وأن السارق لا تقطع يده إلا بشروط وقيود كثيرة منها: أن تنتفي كل شبهة في ثبوت الجريمة، وإلا فإن الحدود تدرأ بالشبهات، ومن الشبهات أن يسرق في أيام المجاعة، أو يسرق بدافع الحاجة، أو يسرق من مال له فيه شبهة ملك، أو غير ذلك مما يدرأ عنه العقوبة.

على أن الشفاعة في الحدود ممكنة ما لم تصل إلى القضاء، ودرؤها ممكن ولو بعد الوصول إلى القضاء، إذا بدت على السارق دلائل التوبة، كما دلت على ذلك نصوص ثابتة، وهو ما اختاره الشيخان: ابن تيمية وابن القيم، وهو ما أرجحه أيضا.

ومهما يكن في هذه العقوبة من شدة، فإن أشد منها ترويع السارق لأمن المجتمع كله، وقسوته على ضحاياه إلى حد قتل البرآء في عقر دارهم.

من نظر هذه النظرة الشاملة آمن بأن شرع الله هو الدواء الناجع والعقاب العادل (نكالا من الله، والله عزيز حكيم)

7 ـ وقد يحتاج المفتي في بعض الأحيان إلى ترك الإجابة عن سؤال السائل، لعدم أهميته، مثل سؤال بعضهم عن القرآن: أهو مخلوق أم غير مخلوق؟
فهذا سؤال لا وزن له في هذا العصر، ولا حاجة إلى إثارته، وقد مضى زمن أصاب المسلمين من ورائه شر مستطير، ومحنة عظيمة أوذي فيها علماء المسلمين وخيارهم وعلى رأسهم إمام السنة أحمد بن حنبل رضي الله عنه.

-فإحياء هذه المشكلة التاريخية لا معنى له، ولا جدوى منه، إلا إهدار الطاقات الفكرية للأمة في جدل بيزنطي كما يقولون.

-فكان الأولى بالسائل عن هذا أن يسأل عن وجه إعجاز القرآن ـ مثلا ـ ليقنع غير المسلمين بأنه من عند الله، وأنه تنزيل من حكيم حميد.

-أو يسأل عن بعض قصص القرآن، ليأخذ منها العظة، ويلتمس العبرة والذكرى له، ولكل من كان له قلب، أو لقي السمع وهو شهيد.

-أو يسأل عن شيء من أحكام القرآن وتشريعه، ليرى فيه عدل الله بين عباده، ورحمته في خلقه (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون).