وسع الفقهاء في دائرة العفو عن النجاسات إيمانا منهم بأن الحرج مرفوع في شريعة الإسلام ، ومن جملة الأشياء المعفو عنها النجاسات التي لا ترى، مثل ما يتطاير على الإنسان من آثار بوله أثناء قضاء حاجته على المقعدة الإفرنجية ( التواليت ) أو على الأرض الصلبة ، وعليه فهذه النجاسات من المعفو عنها ، ولا يجب تتبعها .
يقول الدكتور يوسف القرضاوي :-
اتفق الفقهاء على أن هناك أنواعا وأقدارا من النجاسات: معفو عنها شرعا، وتتفاوت المذاهب في نوع المعفو عنه وفي قدره تفاوتا بعيدا، ولكنها جميعا تتفق في أصل مهم، وهو: أن ما يشق الاحتراز عنه فيه مشقة شديدة يعفى عنها، وهذا لأن هذا الدين يقوم على اليسر لا العسر، وعلى رفع الحرج، وعلى أن المشقة تجلب التيسير، وأنه ما ضاق الأمر إلا اتسع، وأن عموم البلوى يوجب التخفيف، وأن الضرورات تبيح المحظورات، وأن التكليف بحسب الوسع، وأن النبي ﷺ قال لأصحابه ـ في قصة بول الأعرابي بالمسجد ـ: “إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين.
فالحنفية يقولون ـ بعد تقسيمهم النجاسة إلى غليظة وخفيفة ـ: يعفى عن قدر الدرهم ـ مساحة ـ إن كان مائعا، وعن قدره ـ وزنا ـ إن كان كثيفا جامدا، كما يعفى عن ربع الثوب من الخفيفة، وعند أبي يوسف: شبر في شبر، وعند محمد: ذراع في ذراع.
ويعنون بالغليظة: كل ما خرج من الإنسان من البول والغائط والمذي والودي ونحوها، وكذلك بول وروث ما لا يؤكل لحمه، والمني عندهم نجس، ويجب غسل رطبه، ويجزئ الفرك في يابسه، ويكفي المسح لتطهير السيف والمرآة ونحوهما من كل صقيل.
قالوا: وإن أصابت الأرض نجاسة، فذهب أثرها بالشمس والريح: جازت الصلاة عليها، دون التيمم بها، وروى بعض الحنفية جواز التيمم بها أيضا، لأن النجاسة استحالت إلى أجزاء الأرض، والاستحالة تطهر، كالخمر إذا تخللت.
وأما النجاسة الخفيفة: فمثل بول ما يؤكل لحمه، وبول الفرس، ودم السمك، ولعاب البغل والحمار، وخرء ما لا يؤكل لحمه من الطيور، أما خرء ما يؤكل لحمه منها ـ كالحمام ونحوه ـ: فهو طاهر، (بخلاف الدجاج والبط الأهلي فنجاسته مغلظة).
قالوا: وإذا انتضح البول عليه مثل رؤوس الإبر، فليس بشيء، لأن في الاحتراز عنه حرجا، وهو منفي في الدين، ومثل ذلك: بول الخفافيش وخرؤها، ودم البَقِّ والبراغيث ليس بشيء، وكذلك: ما بقي من الدم في اللحم والعروق طاهر، وقال أبو يوسف: يعفى عنه في الأكل لا في الثياب.
وقال المالكية: يعفى عن قدر الدرهم من الدم والقيح والصديد، بثوب أو بدن أو مكانن ويعفى عن بول وروث الدواب غير المأكولة: كالبغال والحمير والخيل إذا أصابت ثوب من يزاولها ـ بالرعي ونحوه ـ أو بدنه، لمشقة احترازه عن ذلك، بخلاف من لا يزاولها، ويعفى عن أثر الذباب يقع على البول أو الغائط أو الدم بأرجله أو فمه، ثم يطير ويحط على ثوب أو بدن.
ويعفى عن طين المطر ونحوه، كطين الرش، ومستنقع الطرق، ومحل العفو: ما لم تغلب النجاسة على الطين، بأن تكون أكثر منه يقينا أو ظنا، كنزول المطر على مطرح النجاسات، أو ما لم تصب الإنسان عين النجاسة غير المختلطة بغيرها.
ويعفى عما أصاب الخف والنعل من أرواث الدواب وأبوالها في الطرق والأماكن التي تطرقها الدواب كثيرا، لعسر الاحتراز عن ذلك.
قالوا: وما تفاحش من الأشياء المعفو عنها، بأن خرج عن العادة، حتى صار يتسقبح النظر إليه، فإنه يندب غسله، كما أنه يندب غسل دم البراغيث إذا تفاحش.
قالوا: وما سقط من المسلمين على مار في الطريق: يحمل على الطهارة، ما لم يوقن أو يغلب على ظنه النجاسة، وليس عليه أن يسأل عن طهارته أو نجاسته، لكنه إن سأل: صدق المجيب إذا كان عدلا.
كما يعفى عن طعام أو لبن أو حوض ولغ فيه الكلب، ولا يراق، ولا يغسل سبعا، إذ الكلب طاهر، ولعابه طاهر، وإنما يغسل سبعا إذا ولغ في إناء الماء تعبدا.
ويعفى عن كل ما يعسر التحرز منه من النجاسات: للصلاة ودخول المسجد، لا بالنسبة للطعام والشراب، لأن ما يعفى عنه إذا حل بطعام أو شراب نجسه. وهذه قاعدة.
ومن ذلك: سلس البول، ودم الاستحاضة، وبلل الباسور لمن ابتلي به، إذا أصاب بدنه أو ثوبه، بخلاف اليد فيجب غسلها، إذ لا يشق غسلها كغيرها.
ويعفى عن ثوب المرضعة أو جسدها، يصيبه بول أو غائط من الطفل، سواء كانت أما أم غيرها. إذا كانت تجتهد في درء النجاسة عنها حال نزولها، بخلاف المفرّطة المهملة.
ومثل ذلك: الجزار الذي يصيبه الدم، والطبيب: الذي يزاول الجروح، والكناف: الذي صنعته نزح الأكنفة. لمشقة الاحتراز عن النجاسة، بشرط ألا يكونوا مفرطين.
وينبغي أن نذكر هنا: أن القول المشهور عند المالكية هو: أن إزالة النجاسة ليست شرطا لصحة الصلاة كما هي عند غيرهم، وليست واجبة أيضا، بل هي مطلوبة على سبيل السنيّة والاستحباب، لا على سبيل الوجوب.
ومذهب الشافعي أشد المذاهب المتبوعة في مسائل الطهارة من جهة تكثير الأعيان النجسة، ومن جهة اعتبار بول وروث ما يؤكل لحمه من النجاسات المغلظة، ومن جهة تعيين الماء وحده مزيلا للنجاسة، دون أي مائع آخر، ومن جهة أن الاستحالة لا تطهر فيما عدا الخمر إذا تخللت بنفسها، ومن جهة المعفو عنه من النجاسات.
ومع هذا نرى الشافعية يقررون: أن ما يشق الاحتراز عنه يعفى عنه.
ويعفى عما يشق الاحتراز عنه من طين الشوارع، وإن تيقن نجاسته، في زمن الشتاء لا زمن الصيف، إذا كان في ذيل الثوب والرِّجْل، دون الكُم واليد، بشرط ألا تظهر عليه عين النجاسة، وأن يكون الشخص محترزا عن إصابة النجاسة، بحيث لا يرخي ذيل ثيابه، وأن تصيبه النجاسة، وهو ماش أو راكب، لا إن سقط على الأرض.
قالوا: ولا يعفى عن شيء من النجاسات كلها مما يدركه البصر، إلا اليسير من الدم والقيح، سواء أكان من نفسه أو من غيره، غير دم الكلب والخنزير. لأن جنس الدم يتطرق إليه العفو، فيقع القليل منه في محل المسامحة. قال في الأم: والقليل: ما تعافاه الناس. أي ما عدوه عفوا.
وأما دم نحو الكب، فلا يعفى عن شيء منه لغلظه، وكذا لو أخذ دما … ولطخ به بدنه أو ثوبه، فإنه لا يعفى عن شيء منه لتعديه بذلك، فإن التضمخ بالنجاسة حرام.
وأما دم الشخص نفسه الذي لم ينفصل، كدم الدماميل والقروح، وموضع الفصد والحجامة، فيعفى عن قليله وكثيره، انتشر بعرق أم لا.
ويعفى عن دم البراغيث وأن كثر (ما لم يكن يقتله) والقمل والبق، وونيم الذباب (أي روثه) وبوله وعن قليل بول الخفاش وروثه، واستظهر بعضهم العفو عن كثيره أيضا، وكذا بقية الطيور. لأن ذلك مما تعم به البلوى، ويشق الاحتراز عنه.
وأما ما لا يدركه البصر، فيعفى عنه، ولو من النجاسة المغلظة، لمشقة الاحتراز عن ذلك. كقوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) الحج:78.
ومما يذكر للشافعية هنا: تخفيفهم في السؤر، وهو فضلة الماء الذي شرب منه إنسان أو حيوان، فقد قالوا: سؤر الهرة طاهر غير مكروه، وكذا سؤر جميع الحيوانات من الخيل والبغال والحمير والسباع والفأر والحيات وسام أبرص، وسائر الحيوان المأكول، وغير المأكول، فسؤر الجميع وعرقه طاهر غير مكروه، إلا الكلب والخنزير. قال النووي: وحكى صاحب (الحاوي) ـ أي الماوردي ـ مثل مذهبنا عن عمر وعلي وأبي هريرة والحسن البصري، وعطاء، والقاسم بن محمد. قال النووي: واحتج أصحابنا بحديث أبي قتادة في الهرة: ” أنها ليست بنجس ” هذا الحديث هو عمدة المذهب.