يقول فضيلة الشيخ عطية صقر-رحمه الله تعالى- رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر:
روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله أن أعرابيًّا بايَع رسولَ الله ـ ﷺ ـ فأصاب الأعرابيّ وعْكٌ بالمدينة، فقال: يا رسول الله أقلْني بيعتي فأبى رسول الله ﷺ، وتكرّر الطلب والرفض ثلاث مرات، فخرج الأعرابي فقال الرسول ﷺ” إنما المدنية كالكِير، تنفي خَبَثَها، وينْصعُ طيبَها ” والطّيب بكسر الطاء هو الرائحة الحسنة، وبفتحها وتشديد الياء هو الطاهر.
لم تصرح رواية مسلم بما بايع الأعرابي عليه رسول الله، ﷺ، وصرحت رواية البخاري بأنه بايعه على الإسلام، وجاء في شرح النووي على صحيح مسلم أن المبايعة كانت على الإسلام والهجرة، وجاء في فتح الباري لابن حجر أن طلب الإقالة من الأعرابي هل كان عن الإسلام والهجرة أم عن الهجرة فقط ؟
من المعلوم أن الهجرة إلى المدينة كانت واجبة قبل فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة، ثم صارت بعد الفتح غير واجبة كما صحّ في حديث البخاري ومسلم:” لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيّة، وإذا استنفرتم فانفروا ” فتركها قبل الفتح معصية، وبعد الفتح ليس بمعصية.
ومن المعلوم أيضًا أن جوّ المدينة لم يلائم كثيرًا من الوافدين عليها، وشكا بعض المهاجرين ذلك إلى النبي ﷺ ومنهم أبو بكر وبلال رضي الله عنهما، فدعا الرسول ربّه أن يُحَبِّبَ إليْهِم المدينة كما حَبَّبَهم في مكّة أو أشدّ، كما رواه البخاري، ورغب في الصبر على شدّتها وعدم مفارقتها.
والأعرابي الساكن في البادية لما وفد إلى النبي بالمدينة وأسلم لم يعجبه جوها فطلب من الرسول إقالتَه فلم يُقله، فخرج الأعرابي من المدينة، واختلف العلماء فيما طلب الإقالة منه: هل هو الإسلام والهجرة، أو الهجرة فقط؟ رجّح جماعة أنه الهجرة فقط، وذلك بعد سقوط فرضيتها بفتح مكة،لكن قيل: إذا كانت الهجرة سقطت فرضيتها، فلماذا لم يأذن له الرسول بترك المدينة؟ أجيب بأن الرسول يحب لمن سكنها ألا يتركها حتى لو كان تركها متاحًا، والرجل حين خرج منها بعد طلب الإقالة لم يرتكب إثما، وإنما ارتكب خلاف الأولى، ولا عقوبة في ذلك لا في الآخرة ولا في الدنيا.
وإذا كان طلبه الإقالة من الهجرة قبل فتح مكة كان تركه للمدينة معصية، والرسول لا يسمح بارتكاب المعصية حتى لو كانت صغيرة، وهذه المعصية لا عقوبة عليها في الدنيا مثل كثير من المعاصي، كعقوق الوالدين والغيبة والنميمة، وإن كانت لها عقوبة أخروية.
وقال جماعة: إن الأعرابي طلب الإقالة من الإسلام والهجرة، وإذا كان الرسول ﷺ قد رفض الإقالة من الهجرة على الوجه المبين من قبل، فإنه يرفض الإقالة من الإسلام؛ لأنّها ردة.
وهنا يقال: لماذا لم يعاقبه الرسول على الردّة ؟ والجواب أن الأعرابي إذا خالف بالخروج من المدينة كما نص الحديث فإن رفضه للإسلام غير معلوم؛ لأنه لا تلازم بين الاثنين، وبخاصّة أنه بين في طلبه عدم ملاءمة جو المدينة له فقط، فيجوز أن يخرج من المدينة إلى البادية طلبًا للصحة مع بقائه على الإسلام بعقيدته وشريعته.
ورفض الإسلام الذي يكون ردة أمر متعلق بالقلب والباطن، لا يُعلم إلا بقول يصرح فيه بالرفض والإنكار لأية عقيدة من عقائده، أو بفعل يدل على ذلك كسجود لصنم أو إهانة المصحف بإلقائه مثلاً في القاذورات، وبدون هذه الأمارات لا تُعلم الردّة، كالمنافقين الذين تكفُر قلوبهم ولا يصدر منهم قول أو فعل يصرح بما في قلوبهم، فكانوا يعاملون بظاهرِهم معاملة المؤمنين.
والأعرابي لم يتبين للرسول منه ما يفيد رفضه للإسلام حتى يعامله معاملة المرتدّ، ومجرد خروجه من المدينة ونقض البيعة على الهجرة على فرض أنّه من المعاصي الكبيرة لا يلزم منه الكفر، وحديث أبي ذر في ذلك معروف، فإن المؤمن مصيره الجنّة ولا يخلد في النار كالكافرين حتى لو سرق وزنا ” رغم أنف أبي ذرٍّ “.
وما جاء من الأحاديث التي تنفي الإيمان عن مرتكب الكبائر مثل:” لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن … ” قال فيه العلماء: إن نفي الإيمان إما أن يكون نفيا لكماله، وإما أن يكون نفيا لأصله إذا اعتقد أن الزّنا حلال، فإنَّ اعتقاد حل ما حرّمه الله تحريمًا قاطعًا كفر، ولم يُعلم أن الأعرابي اعتقد أن ترك المدينة حلال على فرض أنه حرام، ومن هنا لم يُقم الرسول عليه حد الردّة، ولا يصح أن تكون هذه الواقعة متَّكَأً لمن يرفضون أن الردّة يعاقب عليها بالقتل، ويدعون إلى الحرية في اختيار أي دين، والتحول من دين إلى آخر، أو عدم التقيد بأي دين، تحقيقًا للحريّة المكفولة لكل إنسان. متجاهلين قول الله تعالى:( وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِيْنِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافُرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُونَ ) [ سورة البقرة : 217 ] وقوله:( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الِإسْلَامِ دِيْنًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين ) [ سورة آل عمران : 85 ] وقول النبي ﷺ:” لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والقاتل والتارك لدينه المفارق للجماعة” رواه البخاري ومسلم، وقوله:” من بدَّل دينَه فاقْتلوه ” رواه البخاري.