بيع الغرر حرام، بيد أنه يستثنى منه صورتان جائزتان :-
الصورة الأولى : – ما تدعو إليه الحاجة مثل بيع البيوت مع جهالة جدرانها ، وأثاثها من حيث المتانة والضعف ، فهذا مباح لحاجة الناس إليه .
الصورة الثانية :- ما كان الغرر فيه خفيفا كدفع ثمن تذكرة الحمامات العامة مع الجهل بكمية الماء المستخدم والصابون ومدة المكث .
وعليه فلا مانع من دخول محلات ترفيه الأطفال ، بعد دفع ثمن التذكرة ، والجهل بمدة المكث ، وبمدى استخدام الآلات الموجودة ، فإنه غرر يسير يتسامح الناس في مثله .
أما ما يعر ف بالبوفيهات المفتوحة فهو من الممكن أن يدخل في الصورة الثانية ، وهو الغرر الخفيف ، بشرط أن يكون معروفا لدى الزبائن نوعية الطعام المسموح به وكذلك المشروبات ، فإذا لم تعرف كان غررا كثيرا وهو لا يجوز ، أما إذا عرفت نوعية الطعام ، فيبقى الغرر في كميته ، وهو يسير ، فقد أجر سيدنا موسى نفسه على عفة نفسه ، وطعام بطنه .
يقول الدكتور علي محيي الدين القرة داغي:-
يجوز استئجار الأجير بطعامه وكسوته ……….. والشرط الأساسي في الأجرة هو أن تكون معلومة علما يدرأ الجهالة المؤدية إلى النزاع من خلال التعيين ، أو الوصف ببيان الجنس ، والنوع والقدر ، وذلك للأحاديث الواردة في نفي الغرر والجهالة .
وأجاز مالك أن تكون الأجرة الكسوة بأن يستأجره على أن يكسوه أجلا معلوما . انتهى.
ويقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي :-
كل عقد للبيع فيه ثغرة للتنازع، بسبب جهالة في المبيع لأنه غرر يؤدي إلى الخصومة بين الطرفين، أو غبن أحدهما الأخر، فقد نهى عنه النبي – ﷺ – سدًا للذريعة.
وفي هذا جاء النهي عن بيع ما في صلب الفحل أو بطن الناقة أو الطير في الهواء أو السمك في الماء وعن كل ما فيه غرر (النهي عن الغرر في صحيح مسلم وغيره) . . (أي جهالة وعدم تحديد للمعقود عليه).
ومن ذلك أن النبي – ﷺ – وجد الناس في زمنه يبيعون الثمار في الحقول أو الحدائق قبل أن يبدو صلاحها . وبعد تعاقدهم يحدث أن تصيبها آفة سماوية، فتهلك الثمار، ويختصم البائع والمشترى، يقول البائع: قد بعت وتم البيع، ويقول المشترى: إنما بعت لي ثمرًا ولم أجده، فنهى النبي – ﷺ – عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها (رواه الشيخان)،
إلا أن يشترط القطع في الحال، ونهى عن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة (أخرجه مسلم) . . وقال: ” أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يستحل أحدكم مال أخيه “؟ (رواه البخاري وغيره).
وليس كل غرر ممنوعًا، فإن بعض ما يباع لا يخلو من غرر، كالذي يشترى دارًا مثلاً لا يستطيع أن يطلع على أساسها وداخل حيطانها . . ولكن الممنوع هو الغرر الفاحش الذي يؤدي إلى الخصومة والنزاع، أو إلى أكل أموال الناس بالباطل.
فإذا كان الغرر يسيرًا – ومرد ذلك إلى العرف – لم يحرم البيع، وذلك كبيع المغيبات في الأرض كالجزر والفجل والبصل ونحوها، وكبيع المقاتي (مزارع القثاء والبطيخ ونحوها) كما هو مذهب مالك الذي يجيز بيع ما تدعو إليه الحاجة ويقل غرره بحيث يحتمل في العقود.
(قال ابن تيمية في القواعد النورانية: أصول مالك في البيع أجود من أصول غيره، فإنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب الذي كان يقال هو أفقه الناس في البيوع ص 118 وقريب منه مذهب أحمد). انتهى.
ويقول الإمام ابن القيم– رحمه الله- :-
ليس من بيع الغرر بيع المغيبات في الأرض كاللفت والجزر والفجل والقلقاس والبصل ، فإنها معلومة بالعادة ، يعرفها أهل الخبرة بها ، وظاهرها عنوان على باطنها فهو كالكومة من الطعام تباع جزافا مع أن الذي يرى منها ظاهرها فقط ، وهو يستدل به على باطنها ، ولو قدر أن في ذلك غررا فهو غرر يسير يغتفر في جنب المصلحة التي لا بد للناس منها فإن ذلك غرر لا يكون موجبا للمنع ، فإن إجارة الحيوان والحانوت- المحلات والدكاكين – سنة كاملة لا تخلو عن غرر لأنه يعرض فيه موت الحيوان وانهدام الدار ، ومثل ذلك دخول الحمام ، فإن من يريد دخول الحمام يدفع الأجرة ثم يدخل ، وغير معروف كمية الماء الذي سيستهلكه ، ولا كمية الصابون الذي سيستخدمه، ولا المدة التي سيمكثها ، وهذا كله غرر يسير مغتفر.
وكذا من يسقي الناس من فم السقاء بأجر معلوم مثلا ، والسقاء لا يظهر ما بداخله ، فيه غرر ، حيث لا يعرف صاحب السقاء مقدار الماء الذي سيشرب ، ومعروف أن الناس يختلفون في هذا .
وكذلك بيع البيض والبطيخ والجوز واللوز والفستق ، وأمثال ذلك مما لا يخلو من الغرر فليس كل غرر سببا للتحريم ، والغرر إذا كان يسيرا أو لا يمكن الاحتراز منه لم يكن مانعا من العقد ، فإن الغرر الحاصل في أساسات الجدران ، أو آخر الثمار التي بدا صلاح بعضها دون بعض لا يمكن الاحتراز منه .
والغرر في دخول الحمام والشرب من السقاء ونحوه غرر يسير فهذان النوعان لا يمنعان ، بخلاف الغرر الكثير الذي يمكن الاحتراز منه ، وهو المذكور في الأنواع التي نهى عنها رسول الله ﷺ .وما كان مساويا لها لا فرق بينها وبينه فهذا هو المانع من صحة العقد .