الأصل العام هو خصوصية كل وقف على الجهة التي تم الوقف عليها، ولكن أجاز العلماء التصرف في الأموال المرصودة لجهة واحدة على أن ينتفع بها جميع ما تحت هذه الجهة، وعليه فيمكن الانتفاع من أوقاف مسجد لبقية المساجد ويحدد هذا القائمين على الهيئة التي تخضع لها المساجد.

يقول الأستاذ الدكتور علي محيي الدين القره داغي:

الأصل والمبدأ العام والقاعدة الأساسية هو الحفاظ على خصوصية كل وقف وكل جهة وإن كانت تحت إشراف إدارة واحدة، وذلك لضرورة مراعاة أن يكون ريع الوقف لنفس الجهة التي وقف عليها الواقف، قال البهوتي: ( ويتعين مصرف الوقف إلى الجهة المعينة ). وكذلك الأمر في حالة الالتـزامات، والتعمير والبناء وذلك من خلال ترتيب هذه الجهات كصناديق خاصة لها ذمتها المالية المستقلة بقدر الإمكان.

هذا هو الأصل ما دام ذلك ممكناً ولم يكن هناك ما يعارضه ويدل عليه الأدلة المعتبرة على ضرورة الحفاظ على الوفاء بالعقود والشروط إلاّ الشروط التي تكون مخالفة للكتاب والسنة، أو لا تحقق الغرض المنشود من الوقف، قال القرافي: ( ويجب اتباع شروط الوقف …، لأنه ماله، ولم يأذن في صرفه إلاّ على وجه مخصوص، والأصل في الأموال العصمة …).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( والمقصود إجراء الوقف على الشروط التي يقصدها الواقف، ولهذا قال الفقهاء: إن نصوصه كنصوص الشارع يعني في الفهم والدلالة فيفهم مقصود ذلك من وجوه متعددة كما يفهم مقصود الشارع ).

ومع هذا الأصل العام فإن الذي يظهر راجحاً هو جواز التصرف في جميع الأموال المرصودة لجهة واحدة، كالمساجد مثلاً حيث لا بدّ أن ينظر إلى جميع موقوفات المساجد الواقعة تحت إدارة الوقف كذمة واحدة حسب المصلحة الراجحة، ولكن مع تقديم مصالح الموقوف عليه من وقفه الخاص به على غيره، وإذا فضل، أو اقتضت المصلحة غير ذلك صرف منه إلى بقية الموقوف عليه من نفس الجهة وهكذا الأمر في الوقف على جهة الفقراء، أو المدارس، أو نحوها.

هل يمكن أن ينظر إلى جهات الخير كلها كأنها جهة واحدة يصرف من ريعها على الجميع حسب أولوية المصالح؟

فقد أفتى فقهاء المالكية بذلك فقالوا: (الأحباس كلها ـ إذا كانت لله ـ بعضها من بعض، وذلك مقتضى فتوى أبي محمد العبدوسي)، كما نقل فتاوى بهذا الشأن للبرزلي وابن ماجشون وغيرهما، وجاء فيهما أيضاً: ( قال اصبغ، وابن ماجشون: إن ما يقصد به وجه الله يجوز أن ينـتفع ببعضه من بعض، وروى أصبغ عن أبي القاسم مثل ذلك في مقبرة قد عفت فيبني قوم عليها مسجداً: لم أرَ به بأساً، قال: وكذلك ما كان لله فلا بأس أن يستعان ببعضه على بعض، وقد رأى بعض المتأخرين: أن هذا القول أرجح في النظر، لأن استنفاد الزائد في سبيل الخير أنفع للمحبس، وأنمى لأجره …).

وقال أبو محمد العبدوسي في الجواب عن جمع أحباس فاس: (يجوز جمعها، وجعلها نقطة واحدة وشيئاً واحداً لا تعدد فيه، وأن تجمع مستفادات ذلك كله، ويقام منه ضروري كل مسجد من تلك المستفادات المجتمعة…).

وأفتى بعض علماء الحنابلة بجواز عمارة وقف من ريع وقف آخر على جهته، قال ابن مفلح: (ويصرف ثمنه أي الموقوف في حالة بيعه ـ في مثله) كذا في المحرر، والوجيز، والفروع، وزاد: (أو بعض مثله، قاله أحمد لأنه أقرب إلى غرض الواقف) ثم قال: ( وظاهر الخرقى أنه لا يتعين المثل، واقتصر عليه في المغني، والشرح، إذ القصد النفع، لكن يتعين صرف المنفعة في المصلحة التي كانت الأَولى أن تصرف إليها، لأن تغيير المصرف مع إمكان المحافظة عليه لا يجوز، وكذلك الفرس إذا لم يصلح للغزو بيع واشترى بثمنه ما يصلح للجهاد، وعنه رواية أخرى: يصرفه على الدواب الحبس، وما فضل من حصره وزيته جاز صرفه إلى مسجد آخر، والصدقة به على فقراء المسلمين… واختاره الشيخ تقي الدين، وقال أيضاً: وفي سائر المصالح، وبناء مساكن لمستحق ريعه القائم بمصلحته..).

فهذه الفتاوى لعلماء المذهبين تجيز النظر إلى جميع الجهات نظرة واحدة قائمة على ذمة واحدة حسب المصالح المعتبرة، والذي يظهر رجحانه هو أن يكون ذلك في دائرة الاستثناء ويبقى الأصل العام في رعاية كل وقف بذاته إلاّ لمصلحة راجحة، وهذا ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية من أن يربط التصرف في أموال الوقف بالمصالح الراجحة أكثر من غيرها حيث قال ـ بعد جواز تغيير الوقف وبيعه ـ: (فَـتُـتبع مصلحة الوقف، ويدار مع المصلحة حيث كانت، وقد ثبت عن الخلفاء الراشدين ـ كعمر وعثمان ـ أنهما غّيرا صورة الوقف للمصلحة، بل فعل عمر ما هو أبلغ من ذلك حيث حول مسجد الكوفة القديم فصار سوق التمارين وبنى لهم مسجداً آخر في مكان آخر).