أجمع الفقهاء على وجوب الوضوء عند الصلاة ، واختلفوا بعد ذلك حول الطواف وحمل المصحف والقراءة فيه وغير ذلك.
لماذا نتوضأ وماذا نقصد بالوضوء:
وهذه الأشياء منها: المتفق عليه، ومنها المختلف فيه.
وهناك أشياء يطلب الوضوء لها طلب استحباب لا طلب إيجاب.
لا صلاة إلا بوضوء:
فأما الأشياء المتفق عليها في وجوب الوضوء لها، فهي الصلاة، فرضا كانت أو نفلا. فمفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الطهور.
وقد قال رسول الله ﷺ: “لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث، حتى يتوضأ” متفق عليه.
ولكن ذهب بعض السلف إلى أن سجود التلاوةيجوز من غير وضوء، لأنه لا يعتبر صلاة. وهو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.
الطواف بالبيت وما فيه من خلاف:
ومما أوجب فيه الجمهور الوضوء: الطواف بالكعبة البيت الحرام. وهو من العبادات التي يتقرب بها إلى الله، وهو ركن من أركان الحج والعمرة بالإجماع. قال تعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) الحج: 29 وقال تعالى لإبراهيم: (وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود) الحج: 26.
وقد روى الإمام الشافعي في مسنده عن ابن عمر وابن عباس موقوفا: “الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام”.
ورواه جماعة غير الشافعي مرفوعا، وزادوا فيه: ” فمن نطق فيه فلا ينطق إلا بخير “.
ترجيح ابن تيمية:
وعرض شيخ الإسلام ابن تيمية للمسألة في فتاويه، فرجح بالدليل: أن الوضوء لا يشترط للطواف. ومما قاله:
وأما الطواف: فلا يجوز للحائض بالنص، والإجماع.
وأما الحدث: ففيه نزاع بين السلف، وقد ذكر عبد الله بن الإمام أحمد في المناسك بإسناده عن النخعي، وحماد بن أبي سليمان: أنه يجوز الطواف مع الحدث الأصغر، وقد قيل: إن هذا قول الحنفية، أو بعضهم. وأما مع الجنابة والحيض: فلا يجوز عند الأربعة: لكن مذهب أبي حنيفة: أن ذلك واجب فيه لا فرض، وهو قول في مذهب أحمد. وظاهر مذهبه كمذهب مالك والشافعي أنه ركن فيه. والصحيح في هذا الباب ما ثبت عن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وهو الذي دل عليه الكتاب والسنة، وهو أن مس المصحف لا يجوز للمحدث، ولا يجوز له صلاة جنازة، ويجوز له سجود التلاوة، فهذه الثلاثة ثابتة عن الصحابة.
وأما الطواف: فلا أعرف الساعة فيه نقلا خاصة عن الصحابة، لكن إذا جاز سجود التلاوة مع الحدث، فالطواف أولى، كما قاله من قاله من التابعين. وكان ابن عمر يسجد على غير وضوء.
وذكر عن وكيع عن زكريا عن الشعبي في الرجل يقرأ السجدة على غير وضوء؟ قال: يسجد حيث كان وجهه. وعن الشعبي: جواز سجود التلاوة إلى غير القبلة.
والذين أوجبوا الوضوء للطواف ليس معهم حجة أصلا، فإنه لم ينقل أحد عن النبي ﷺ لا بإسناد صحيح، ولا ضعيف: أنه أمر بالوضوء للطواف، مع العلم بأنه قد حج معه خلائق عظيمة. وقد اعتمر عُمَرًا متعددة، والناس يعتمرون معه، فلو كان الوضوء فرضا للطواف، لبينه النبي ﷺ بيانا عاما، ولو بينه لنقل ذلك المسلمون عنه ولم يهملوه، ولكن ثبت في الصحيح أنه لما طاف توضأ. وهذا وحده لا يدل على الوجوب، فإنه قد كان يتوضأ لكل صلاة، وقد قال: إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر، فيتيمم لرد السلام.
وقد ثبت عنه في الصحيح أنه لما خرج من الخلاء، وأكل وهو محدث، قيل له: ألا تتوضأ؟ قال: “ما أردت صلاة فأتوضأ” . يدل على أنه لم يجب عليه الوضوء إلا إذا أراد صلاة، وأن وضوءه لما سوى ذلك مستحب ليس بواجب. وقوله ﷺ: ” ما أردت صلاة فأتوضأ ” ليس إنكارا للوضوء لغير الصلاة، لكن إنكارا لإيجاب الوضوء لغير الصلاة؛ فإن بعض الحاضرين، قال له: ألا تتوضأ؟ فكأن هذا القائل ظن وجوب الوضوء للأكل، فقال ﷺ: ” ما أردت صلاة فأتوضأ ” فبين له أنه إنما فرض الله الوضوء على من قام إلى الصلاة.
والحديث الذي يروى: “الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير” قد رواه النسائي، وهو يروى موقوفا ومرفوعا، وأهل المعرفة بالحديث لا يصححونه إلا موقوفا، ويجعلونه من كلام ابن عباس لا يثبتون رفعه. وبكل حال، فلا حجة فيه؛ لأنه ليس المراد به أن الطواف نوع من الصلاة: كصلاة العيد، والجنائز؛ ولا أنه مثل الصلاة مطلقا، فإن الطواف يباح فيه الكلام بالنص والإجماع، ولا تسليم فيه، ولا يبطله الضحك والقهقهة، ولا تجب فيه القراءة باتفاق المسلمين، فليس هو مثل الجنازة، فإن الجنازة فيها تكبير وتسليم، فتفتح بالتكبير، وتختم بالتسليم.
وهذا حد الصلاة التي أمر فيها بالوضوء. كما قال ﷺ: “مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم” والطواف ليس له تحريم، ولا تحليل، وإن كبر في أوله، فكما يكبر على الصفا والمروة، وعند رمي الجمار، من غير أن يكون ذلك تحريما.
ولا يعرف نزاع بين العلماء: أن الطواف لا يبطل بالكلام والأكل والشرب والقهقهة، كما لا يبطل غيره من مناسك الحج بذلك، وكما لا يبطل الاعتكاف بذلك.
مس المصحف والخلاف فيه:
ومما أوجبوا الوضوء له: مس المصحف. وقد روي هذا عن ابن عمر، والحسن، وعطاء، وطاوس، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد، وجمهور الفقهاء.
وقال داود وأهل الظاهر: يباح مسه. لأن النبي ﷺ كتب في كتابه إلى قيصر آية من القرآن في رسالة إليه، وهو يعلم أنه سيمس هذه الرسالة.
ولكن هذا الدليل ليس بناهض، لأن الآية لا تسمى مصحفا.
واستدل الجمهور بقوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون)، وبحديث عمرو بن حزم: “لا يمس القرآن إلا طاهر”.
أما الآية، ففي الاستدلال بها ضعف، لأن الضمير في قوله (لا يمسه) يحتمل أن يعود على القرآن الكريم، أو على الكتاب المكنون، في قوله تعالى: (إنه لقرآن كريم. في كتاب مكنون. لا يمسه إلا المطهرون) الواقعة: 77-79 والأرجح عودته إلى الكتاب المكنون ـ وهو اللوح المحفوظ ـ لأنه أقرب مذكور. وهنا يكون معنى (المطهرون): هم الملائكة الذين طهرهم الله تعالى وقدسهم وعصمهم من المعاصي (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) التحريم: 6.
ومعنى النص: أنه القرآن قد صانه الله في كتاب مكنون ومحفوظ عنده، لا يمسه ولا يصل إليه إلا الملائكة المطهرون المقربون، فلا يصل إليه الشياطين (وما ينبغي لهم وما يستطيعون. إنهم عن السمع لمعزولون) الشعراء: 211،212.
ومما يرجح هذا: أنه قال (المطهرون)، ولم يقل: (المتطهرون) كما هو شأن المؤمنين من البشر، الذين قال الله فيهم (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) البقرة: 222.
وإذن لا دلالة في الآية على منع مس المصحف.
بقي الحديث، وهو الذي رواه عمرو بن حزم عن النبي ﷺ في الكتاب الذي كتبه له، لما وجهه إلى اليمن، قال النووي: وإسناده ضعيف. رواه مالك في (الموطأ) مرسلا، ورواه البيهقي أيضا من رواية ابن عمر. والله أعلم.
وقال الحافظ ابن حجر في (بلوغ المرام): الحديث معلول.
وقال الصنعاني في (سبل السلام): كتاب عمرو بن حزم تلقاه الناس بالقبول. وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم كتابا أصح من هذا الكتاب، فإن الصحابة والتابعين يرجعون إليه، ويدعون رأيهم.
وقال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز، وإمام عصره الزهري بالصحة لهذا الكتاب.
قال: وفي الباب في (مجمع الزوائد) من حديث عبد الله بن عمر “لا يمس القرآن إلا طاهر” قال الهيثمي: رجاله موثقون.
قال: لكن يبقى النظر في المراد من (الطاهر) فإن لفظه مشترك: يطلق على الطاهر من الحدث الأكبر، والطاهر من الحدث الأصغر، ويطلق على المؤمن، وعلى من ليس على بدنه نجاسة، ولا بد لحمله على معين من قرينة. وأما قوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون) الواقعة: 79 فالأوضح: أن الضمير للكتاب المكنون، الذي سبق ذكره في صدر الآية، وأن (المطهرون) هم الملائكة.
وهناك قرينة تعين أحد معاني المشرك هنا، وهي: أن الطاهر هو المؤمن، بدليل الحديث الصحيح “إن المؤمن لا ينجس” وقوله تعالى: (إنما المشركون نجس) التوبة: 28 ويكون معنى الحديث: ألاّ يمكن المشرك من مس القرآن. لأنه لا يمسه معظما له، ولا معترفا به، بل ممتهنا له، وبهذا يتفق مع النهي عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو، خشية أن تناله أيديهم. أي تناله بالإساءة والعدوان.
حمل المصحف:
والذين منعوا المحدث من مس المصحف اختلفوا في حكم حمله.
فمنهم من قال: يجوز حمله بعلاقته. وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وأحمد. وروي ذلك عن الحسن، وعطاء، والشعبي، وحماد. ومنع منه الأوزاعي، ومالك، والشافعي؛ تعظيما للقرآن. ولأنه مُكَلَّفٌ مُحْدِث قاصد لحمل المصحف، فهو كما لو حمله مع مسه.
والراجح: قول من جوز الحمل، لأنه غير ماس، فلم يمنع، كما لو حمله في رَحْلِه، ولأن النهي إنما تناول المس، والحمل ليس بمس، وقياسهم لا يصح؛ لأن العلة في الأصل مسه، وهو غير موجود في الفرع، والحمل لا أثر له، فلا يصح التعليل به. وعلى هذا لو حمله بحائل بينه وبينه مما لا يتبع في البيع، جاز، وعندهم لا يجوز.
ويجوز تقليبه بعود ومسه به، وكتب المصحف بيده من غير أن يمسه، والصحيح في ذلك الجواز؛ لأن النهي إنما تناول مسه، وهذا ليس بمس.