تعزية أهل الميت في مصابهم سنة ، والتعزية ليس لها لفظ معين ، فألفاظ التعزية بابها واسع فتجوز بكل لفظ يدعو إلى الصبر ما لم يتضمن مخالفة للشرع، ووقوف أهل الميت بعد الدفن صفاً واحداً ومرور المعزين عليهم لا حرج فيه إن شاء الله تعالى؛ لأنه وسيلة من وسائل التعزية، والوسائل لها أحكام المقاصد.
يقول الدكتور حسام عفانه –أستاذ الفقه وأصوله بجامعة القدس بفلطسين-:
من المعلوم أن تعزية أهل الميت من السنة فقد وردت فيها أحـاديـث منها أن النبي ﷺ قال: (ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كـساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة) رواه ابن ماجة والبيهقي بإسناد حسن كما قال الإمـام الــنـووي فــي الأذكار ص 126.
ومنها ما رواه الإمام النسائي عن خالد بن ميسرة قال سمعت معاوية بن قرة عن أبيه قال: (كان نبي الله ﷺ إذا جلس يجلس إليه نفر من أصحابه وفيهم رجل له ابن صغير يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه فهلك فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة لذكر ابنه فحزن عليه ففقده النبي ﷺ فقال: مالي لا أرى فلاناً، قالوا يا رسول الله بنيه الذي رأيته هلك، فلقيه النبي ﷺ فسأله عن بنيه فأخبره أنه هلك فعزاه عليه ثم قال: يا فلان أيما كان أحب إليك أن تمتع به عمرك أو لا تأتي غداً إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك قال يا نبي الله بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها لي لهو أحب إلي قال فذاك لك) ورواه أحمد وابن حبان والحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وصححه العلامة الألباني في أحكام الجنائز ص 162 وغير ذلك من الأحاديث.
وليس للتعزية لفظ معين وإنما يعزي أهل الميت بما يظن أنه يسليهم ويخفف عنهم مصابهم ويحثهم على الرضا بما قدَّر الله ويحثهم على الصبر، فألفاظ التعزية بابها واسع فتجوز بكل لفظ يدعو إلى الصبر ما لم يتضمن مخالفة للشرع.
قال الإمام الشافعي:[وليس في التعزية شيء مؤقت يقال لا يُعدى إلى غيره] الأم 1/278.
وقال الإمام النووي:[وأما لفظ التعزية فلا حجر فيه فبأي لفظ عزاه حصل … وأحسن ما يعزى به ما روينا في صحيح البخاري ومسلم. عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال:أرسلت إحدى بنات النبي ﷺ إليه تدعوه وتخبره أن صبياً لها أو ابناً في الموت فقال للرسول:ارجع إليها فأخبرها أن لله تعالى ما أخــذ ولـه ما أعطى وكل شـيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر وتحتسب …] الأذكار ص 127.
وتمام الحديث السابق هو عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال:( أرسلت ابنة النبي ﷺ إليه إن ابناً لي قبض فأتنا فأرسل يقرئ السلام ويقول: إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب، فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال فرفع إلى رسول الله ﷺ الصبي ونفسه تتقعقع قال حسبته أنه قال كأنها شن ففاضت عيناه فقال سعد يا رسول الله ما هذا فقال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ) رواه البخاري ومسلم.
إذا تقرر هذا فإن وقوف أهل الميت بعد الدفن صفاً واحداً ومرور المعزين عليهم لا بأس فيه ولا حرج فيه إن شاء الله تعالى ؛ لأنه وسيلة من وسائل التعزية ، ومن المعلوم عند العلماء أن للوسائل أحكام المقاصد.
قال الإمام العز بن عبد السلام:للوسائل أحكام المقاصد فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل) قواعد الأحكام 1/46.
وقال الإمام شهاب الدين القرافي:[وموارد الأحكام على قسمين: مقاصد وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل غير أنَّها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما يتوسط متوسطة، ومما يدل على حسن الوسائل الحسنة قوله تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ) فأثابهم الله على الظمأ والنصب وإن لم يكونا من فعلهم بسبب أنهما حصلا لهم بسبب التوسل إلى الجهاد الذي هو وسيلة لإعزاز الدين وصون المسلمين فيكون الاستعداد وسيلة الوسيلة] الفروق.
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين:[وقد قال أهل العلم للوسائل أحكام المقاصد فما كان وسيلةٌ لمطلوبٍ فهو مطلوب وما كان وسيلةً لمنهيٍ منه فهو منهيٌ عنه] عن شبكة الإنترنت.
وبناءً على ما سبق فلا حرج في اصطفاف أهل الميت عند المقبرة لتقبل التعزية فإن هذا الاصطفاف وسيلة لتحقيق السنة وهي التعزية ولا يوجد أي مخالفة شرعية في هذا الاصطفاف لأنه وسيلة إلى تحقيق مقصد مشروع.
قال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز في فتوى له عن حكم جمع أهل الميت في صف واحد حتى تتم تعزيتهم: [ يقوم بعض المعزين بإخراج أهل الميت بعيداً عن القبور، ووضعهم في صف حتى تتم معرفتهم وتعزيتهم بنظام، ولا تهان القبور، ما حكم ذلك؟ فأجاب: لا أعلم في هذا بأساً؛ لما فيه من التيسير على الحاضرين لتعزيتهم.] عن شبكة الإنترنت.
وقال الشيخ العلامة العثيمين في مثل هذه المسألة قال:[ الأصل أن هذا لا بأس به؛ لأنهم يجتمعون جميعاً من أجل الحصول على كل منهم ليعزى، ولا أعلم في هذا بأس.] عن شبكة الإنترنت.
وأجاب الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ مفتي السعودية الحالي عن سؤال ورد فيه [ يصف المعزون في المقبرة صفاً بعد دفنهم ميتهم ويمر الناس عليهم … فأجاب: [هذه الصفة المذكورة إن خلت عن محاذير شرعية وكانت لمجرد التعرف على أولياء الميت الذين أصيبوا بفقد هذا الميت، فإني لا أرى فيها بأساً…] عن شبكة الإنترنت.
وخلاصة الأمر أنه لا حرج في اصطفاف أهل الميت لتقبل التعازي من الناس لأن ذلك وسيلة لتحقيق سنة التعزية، وللوسائل أحكام المقاصد.