ما سماه العلماء: شتل الجنين هو قضية في غاية الغرابة والإثارة، وهي تختلف عما كان يسأل عنه من قبل من ” التلقيح الصناعي “ الذي تلقح فيه بويضة امرأة بحيوان منوي من رجل غير زوجها، وهذا حرام بيقين لأنه يلتقي مع الزنى في اتجاه واحد، حيث يؤدي إلى اختلاط الأنساب، وإقحام عنصر دخيل على الأسرة أجنبي عنها، مع اعتباره منها نسبًا ومعاملة وميراثًا، وإذا كان الإسلام قد حرم التبني ولعن من انتسب إلى غير أبيه فأحرى به أن يحرم التلقيح المذكور، لأنه أشد شبها بالزنى.
أما قضية “الشتل” فليس فيها خلط أنساب، لأن البويضة ملقحة بماء الزوج نفسه، ولكنها تترتب عليها أمور أخرى هي غاية في الخطورة من الناحية الإنسانية والأخلاقية.
وإذا كنا نبحث أولاً عن مشروعية هذا الأمر من الوجهة الدينية، قبل أن نبحث عن أحكامه إذا حدث بالفعل، فالذي نراه – بعد طول تأمل ونظر – أن الفقه الإسلامي لا يرحب بهذا الأمر المبتدع . ولا يطمئن إليه، ولا يرضى عن نتائجه وآثاره، بل يعمل على منعه للأسباب التالية :ـ
إفساد لمعنى الأمومة:
وأول هذه النتائج وأبرزها: أنه يفسد معنى الأمومة كما فطرها الله، وكما عرفها الناس . هذا المعنى الذي ليس في الحياة أجمل ولا أنبل منه.
فالأم الحقيقية ، هي صاحبة البويضة الملقحة، التي منها يتكون الجنين، هي التي ينسب إليها الطفل، وهي الأحق بحضانته، وهي التي تناط بها جميع أحكام الأمومة وحقوقها من الحرمة والبر والنفقة والميراث وغيرها.
وكل دور هذه الأم في صلتها بالطفل أنها أنتجت يومًا ما بويضة أفرزتها بغير اختيارها، وبغير مكابدة ولا مشقة عانتها في إفرازها.
أما المرأة التي حملت الجنين في أحشائها وغذته من دم قلبها أشهرًا طوالا، حتى غدا بضعة منها، وجزءًا من كيانها، واحتملت في ذلك مشقات الحمل، وأوجاع الوحم، وآلام الوضع، ومتاعب النفاس، فهذه مجرد ” مضيفة ” أو ” حاضنة ” تحمل وتتألم وتلد، فتأتي صاحبة البويضة، فتنتزع مولودها من بين يديها، دون مراعاة لما عانته من آلام، وما تكون لديها من مشاعر، كأنها مجرد ” أنبوب ” من الأنابيب، التي تحدثوا عنها برهة من الزمان، لا إنسان ذو عواطف وأحاسيس.
حقيقة الأمومة:
وهل تتكون هذه الأمومة الشريفة من مجرد بويضة أفرزها مبيض أنثى ولقحها حيوان منوي من رجل.
إن الذي يثبته الدين والعلم والواقع، أن هذه الأمومة إنما تتكون مقوماتها، وتستكمل خصائصها، من شيء آخر بعد إنتاج البويضة حاملة عوامل الورثة، إنه المعاناة والمعايشة للحمل أو الجنين، تسعة أشهر كاملة يتغير فيها كيان المرأة البدني كله تغيرًا يقلب نظام حياتها رأسًا على عقب، ويحرمها لذة الطعام والشراب والراحة والهدوء . إنه الوحم والغثيان والوهن طوال مدة الحمل . وهو التوتر والقلق والوجع والتأوه والطلق عند الولادة . وهو الضعف والتعب والهبوط بعد الولادة . إن هذه الصحبة الطويلة – المؤلمة المحببة – للجنين بالجسم والنفس والأعصاب والمشاعر هي التي تولد الأمومة وتفجر نبعها السخي الفياض بالحنو والعطف والحب.
هذا هو جوهر الأمومة . بذل وعطاء، وصبر واحتمال، ومكابدة ومعاناة ولولا هذه المكابدة والمعاناة، ما كان للأمومة فضلها وامتيازها، وما كان ثمة معنى لاعتبار حق الأم أو كد من حق الأب.
إن أعباء الحمل، ومتاعب الوضع، هي التي جعلت للأمومة فضلاً أي فضل، وحقًا أي حق، وهي التي نوه بها القرآن الكريم، وأحاديث الرسول ﷺ ووضعته كرها، وحسبنا أن نقرأ في كتاب الله (ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا، حملته أمه كرها ووضعته كرهًا، وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا)، (ووصينا الإنسان بوالديه، حملته أمه وهنا على وهن، وفصاله في عامين).
ومعنى ” وهنا على وهن “: أي جهدًا على جهد، ومشقة على مشقة، مما يؤدي بها من ضعف إلى ضعف.
وهذه المعاناة التي تتحمل الأم آلامها وأوصابها راضية قريرة العين، هي السر وراء تأكيد القرآن على حق الأم ومكانتها وأوردها فيما ذكرنا من آيات، وهي السر كذلك وراء تكرار الرسول ﷺ الوصية بها، وتأكيد الأمر ببرها، وتحريم عقوقها، وجعل الجنة تحت أقدامها، من مثل: ” إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بآبائكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب .
وفي الحديث المشهور في إجابة من سأل: من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال: ” أمك . . ثم أمك . . . ثم أمك . . ثم أبوك “.
وفي مسند البزار: إن رجلاً كان في الطواف حاملاً أمه يطوف بها، فسأل النبي ﷺ: هل أديت حقها ؟ فقال: ” ولا بزفرة واحدة – أي من زفرات الطلق والولادة ” . فإذا كانت الأم لم تتحمل أي شيء من هذه المخاطر والأوجاع والزفرات فما فضل أمومتها ؟ ومن أين تستحق كل ما جاءت به الوصايا النبوية من زيادة برها ؟
الأم هي الوالدة:
ولا شك أن خير وصف يعبر عن الأم وعن حقيقة صلتها بطفلها في لغة العرب هو ” الوالدة ” وسمى الأب ” الوالد ” مشاكلة للأم، وسميا معًا ” الوالدين ” على سبيل التغليب للأم الوالدة الحقيقية، أما الأب فهو في الحقيقية لم يلد، إنما ولدت امرأته . وعلى هذا الأساس سمى ابن المرأة ” ولدًا ” لها، لأنها ولدته، وولدًا لأبيه كذلك لأنها ولدته له.
فالولادة إذن أمر مهم، شعر بأهميته واضعو اللغة، وجعلوه محور التعبير عن الأمومة والأبوة والبنوة.
ومالنا نذهب بعيدًا . وهذا القرآن الكريم يحصر حقيقة الأمومة في الولادة بنص حاسم، فيقول في تخطئة المظاهرين (المظاهر من امرأته: من يحرمها على نفسه بأن يقول لها: أنت علي مثل أمي . أو كظهر أمي ويسمى هذا شرعًا ” الظهار “) من نسائهم: (ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم) بهذا الأسلوب الجازم الحاصر حدد القرآن معنى الأمومة (إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم)، فلا أم في حكم القرآن إلا التي ولدت.
والخلاصة أن الأم التي لا تحمل ولا تلد كيف تسمى ” أما ” أو ” والدة ” ؟ وكيف تتمتع بمزايا الأمومة دون أن تحمل أعباء الأمومة ؟
لماذا كانت الأم أحق بالحضانة ؟
وهكذا أعطى الشرع حق الحضانة للأم وقدمها على الأب . وجعلها أحق بطفلها منه، لما ذكرته هذه المرأة الشاكية من أسباب وحيثيات تجعلها أحنى على الطفل وأرفق به وأصبر على حضانته من أبيه، فقد صبرت على ما هو أشد وأقسى من الحضانة، حين حملته كرهًا ووضعته كرهًا.
فما تقول هذه الأم المستحدثة إذا اختلف مع زوجها في أمر حضانة الولد ؛ وبأي منطق تستحقه وتقدم على أبيه، ولم يكن بطنها له وعاء، ولا ثديها له سقاء ؟
إن قالت: إنها صاحبة البويضة التي منها خلق، فالأب صاحب الحيوان المنوي الذي لولاه ما صلحت البويضة لشيء، بل لعله هو العنصر الإيجابي النشيط المتحرك في هذه العملية، حتى إن القرآن نسب تكوين الإنسان إليه في قوله تعالى: (فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق . يخرج من بين الصلب والترائب) فالماء الدافق هنا هو ماء الرجل.
5ـ تساؤلات:
ولنا أن نسأل هنا: لماذا يفكر رجال العلم في نقل بويضة امرأة إلى رحم امرأة أخرى ؟
سيجيبون: لنوفر للمرأة المحرومة من الولد، لفقدها الرحم الصالح للحمل، ما تشتاق إليه من الأطفال عن طريق أخرى صالحة للحمل.
ونود أن نقول هنا: إن الشريعة تقرر قاعدتين مهمتين تكمل إحداهما الأخرى:
الأولى: إن الضرر يزال بقدر الإمكان.
والثانية: إن الضرر لا يزال بالضرر.
ونحن إذا طبقنا هاتين القاعدتين، نجد أننا نزيل ضرر امرأة – هي المحرومة من الحمل – بضرر امرأة أخرى، هي التي تحمل وتلد، ثم لا تتمتع بثمرة حملها وولادتها وعنائها . فنحن نحل مشكلة بخلق أخرى.
إن على العلم أن يتواضع ولا يحسب أن بإمكانه أن يحل كل مشكلات البشر، فإنها لا تنتهي ولن تنتهي . ولو فرض أنه حل مشكلة المرأة التي ليس لها رحم صالح، فكيف يحل مشكلة التي ليس لها مبيض صالح ؟
وسؤال آخر: هل هذه هي الطريقة الوحيدة – في نظر العلم – لإزالة ضرر المرأة المحرومة من الإنجاب لعدم الرحم ؟
والجواب: إن العلم الحديث نفسه بإمكانه وتطلعاته – فيما حدثني بعض الأخوة الثقات المشتغلين بالعلوم، والمطلعين على أحدث تطوراتها، وتوقعاتها، يفتح أمامنا باب الأمل لوسيلة أخرى أسلم وأفضل من الطريقة المطروحة.
وهذه الوسيلة هي زرع الرحم نفسه في المرأة التي عدمته، تتمة لما بدأ به العلم ونجح فيه من زرع الكلية والقرنية وغيرهما، بل زرع القلب ذاته في تجارب معروفة ومنشورة.
احتمالات:
ولو ذكر الكلام عن امرأة ذات مبيض سليم، ولكن لا رحم لها . وهي مشوقة إلى الأولاد، وراغبة في الإنجاب، كأنه بهذا نثير الشفقة عليها، ونستدر العطف من أجلها.
ولكن هذا الباب إذا فتح، ما الذي يمنع أن تدخله كل ذات مال من ربات الجمال والدلال، ممن تريد أن تحافظ على رشاقتها، وأن يظل قوامها كغصن البان، لا يغير خصرها وصدرها الحمل والوضع والإرضاع . فما أيسر عليها أن تستأجر ” مضيفة ” تحمل لها، وتلد عنها، وترضع بدلها، وتسلم لها بعد ذلك ” ولدًا جاهزًا ” تأخذه بيضة مقشورة، ولقمة سائغة، لم يعرق لها فيه جبين، ولا تعبت لها يمين، ولا انتفض لها عرق .
وصدق المثل: رب ساع لقاعد، ورب زارع لحاصد !!
وإذا كان مبيض الأنثى يفرز في كل شهر قمري بويضة صالحة – بعد التلقيح – ليكون منها طفل، فليت شعري ما يمنع المرأة الثرية أو زوجة الثري أن تنجب في كل شهر طفلاً ما دام الإنجاب لا يكلفها حملاً ولا يجشمها ولادة !!
ومعنى هذا أن المرأة الغنية تستطيع أن تكون أما لاثنى عشر ولدًا في كل سنة، ما دامت الأمومة هينة لينة لا تكلف أكثر من إنتاج البويضة، والبركة في ” الحاضنات ” أو ” المضيفات ” الفقيرات اللائي يقمن بدور الأمومة ومتاعبها لقاء دريهمات معدودة.
ويستطيع الرجل الثري أيضًا أن يكون له جيش من الأولاد بعد أن يتزوج من النساء مثنى وثلاث ورباع، يمكن لكل واحدة أن تنجب حوالي 500 خمسمائة من البنين والبنات بعدد ما تنتج من البويضات، طوال مدة تبلغ أو تتجاوز الأربعين عامًا من سن البلوغ إلى سن اليأس.
والنتيجة من وراء هذا البحث أن الشريعة لا ترتاح إلى ما سمى ” شتل الجنين ” لما ذكرنا من آثار ضارة تترتب عليه، فهو أمر مرفوض شرعًا، ممنوع فقهًا.