اختلف العلماء ابتداء في حكم التغاير بين نيتي الإمام والمأموم ، فذهب جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والحنابلة) إلى عدم جواز ذلك، وأنه يشترط أن تكون النية واحدة، بأن تكون صلاتهما معا من الفرائض، وأن تكون الفريضة واحدة، الظهر خلف الظهر ، والعصر خلف العصر …وهكذا، ولم يستثنوا من ذلك إلا جواز النافلة خلف الفريضة.
بينما ذهب الإمام الشافعي إلى جواز هذه الصور كلها، فلتكن صلاة الإمام أي صلاة، ولتكن صلاة المأموم أي صلاة أخرى – بشرط الاتحاد في الصفة بأن يكون للصلاتين معا سجود وركوع، مع أن في جواز الصلاتين مختلفتي الصفة خلافا داخل المذهب أيضا كصلاة الجنازة خلف الظهر مثلا -.
إذن ، فمعنى ذلك أن ( الحنفية والمالكية والحنابلة) لا يجيزون صلاة المغرب خلف العشاء ولا العكس، ولا صلاة الظهر خلف العصر ولا العكس …وهكذا.
وعلى هذا فصلاة العشاء خلف المغرب أو العكس إنما تجوز على المذهب الشافعي ومن وافقه- وهذا هو المذهب الراجح دليلا كما سأبينه فيما بعد- .
حكم صلاة المأموم إذا سلم قبل الإمام
كيف يفعل المؤتم إذا انتهت صلاته قبل صلاة الإمام ، وذلك فيما لو كانت صلاته أقصر من صلاة الإمام (كالمغرب خلف العشاء، أو الصبح خلف الظهر)؟ والجواب أنه لا يجوز له أن يتابع الإمام في زيادته وإلا فسدت صلاته، ولكن أمامه خياران :
الأول : أن يجلس للتشهد عند انتهاء صلاته ويسلم لنفسه تاركا الإمام.
الثاني : أن يجلس عند انتهاء صلاته، وينتظر إمامه يتشهد ويسلم معه.
والخيار الأول أفضل .
أحكام الصلاة بين المأموم والإمام
يقول الإمام النووي مبينا حكم المسألة في المذهب الشافعي :
مذهبنا : أنه تصح صلاة النفل خلف الفرض، والفرض خلف النفل، وتصح صلاة فريضة خلف فريضة أخرى توافقها في العدد كظهر خلف عصر، وتصح فريضة خلف فريضة أقصر منها، وكل هذا جائز بلاخلاف عندنا ثم إذا صلى الظهر خلف الصبح وسلم الإمام قام المأموم لإتمام صلاته وحكمه كحكم المسبوق، ويتابع الإمام في القنوت، ولو أراد مفارقته عند اشتغاله بالقنوت جاز كما سبق في نظائره، ولو صلى الظهر خلف المغرب جاز باتفاق، ويتخير إذا جلس الإمام في التشهد الأخير بين مفارقته لإتمام ما عليه وبين الاستمرار معه حتى يسلم الإمام ثم يقوم المأموم إلى ركعته كما قلنا في القنوت، والاستمرار أفضل.
وإن كان عدد ركعات المأموم أقل كمن صلى الصبح خلف رباعية أو خلف المغرب أو صلى المغرب خلف رباعية ففيه طريقان حكاهما الخراسانيون ( أصحهما ) وبه قطع العراقيون جوازه كعكسه . ( والثاني ) : حكاه الخراسانيون فيه قولان ( أصحهما ) هذا ( والثاني ) : بطلانه؛ لأنه يدخل في الصلاة بنية مفارقة الإمام .
فإذا قلنا بالمذهب، وهو صحة الاقتداء ففرغت صلاة المأموم، وقام الإمام إلى ما بقي عليه، فالمأموم بالخيار إن شاء فارقه وسلم، وإن شاء انتظره ليسلم معه، والأفضل انتظاره، وإن أمكنه أن يقنت معه في الثانية بأن وقف الإمام يسيرا قنت، وإلا فلا، وله أن يخرج عن متابعته ليقنت، وإذا صلى المغرب خلف الظهر، وقام الإمام إلى الرابعة، لم يجز للمأموم متابعته، بل يفارقه ويتشهد، وهل له أن يطول التشهد وينتظره ؟ فيه وجهان : حكاهما إمام الحرمين وآخرون . ( أحدهما ) : له ذلك كما قلنا فيمن صلى الصبح خلف الظهر ( والثاني ) : قال إمام الحرمين، وهو المذهب : لا يجوز؛ لأنه يحدث تشهدا وجلوسا لم يفعله الإمام .
ولو صلى العشاء خلف التراويح جاز، فإذا سلم الإمام قام إلى ركعتيه الباقيتين
الأدلة ومناقشتها :
تمسك جمهور الفقهاء بقوله ﷺ : ” إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليه” وأجاب الجمهور أن المقصود النهي عن الاختلاف في الأعمال الظاهرة ، والسنة تفسر بعضها بعضا، ولذلك جاء في آخر الحديث : ” فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال : سمع الله لمن حمده فقولوا : اللهم ربنا لك الحمد وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون
ويذكر الإمام النووي مذاهب العلماء في المسألة وأدلة كل فريق فيقول :
مذهبنا : جواز صلاة المتنفل والمفترض خلف متنفل ومفترض في فرض آخر , وحكاه ابن المنذر عن طاوس وعطاء والأوزاعي وأحمد وأبي ثور وسليمان بن حرب , قال : وبه أقول , وهو مذهب داود . وقالت طائفة : لا يجوز نفل خلف فرض , ولا فرض خلف نفل , ولا خلف فرض آخر . قاله الحسن البصري والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة وأبو قلابة , وهو رواية عن مالك . وقال الثوري وأبو حنيفة : لا يجوز الفرض خلف نفل , آخر ولا فرض آخر , ويجوز النفل خلف فرض وروي عن مالك مثله . واحتج لمن منع بقوله ﷺ { إنما جعل الإمام ليؤتم به } رواه البخاري ومسلم من طرق .
واحتج أصحابنا بحديث جابر { أن معاذا كان يصلي مع رسول الله ﷺ عشاء الآخرة ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة } رواه البخاري ومسلم , هذا لفظ مسلم . وعن جابر قال { كان معاذ يصلي مع النبي ﷺ العشاء ثم يطلع إلى قومه فيصليها لهم , هي له تطوع , ولهم مكتوبة العشاء } حديث صحيح رواه بهذا اللفظ الشافعي في الأم ومسنده .
ثم قال : هذا حديث ثابت لا أعلم . حديثا يروى من طريق واحد أثبت من هذا , ولا أوثق يعني رجالا قال البيهقي في كتابه معرفة السنن والآثار : وكذلك رواه بهذه الزيادةأبو عاصم النبيل وعبد الرزاق عن ابن جريج كرواية شيخ الشافعي عن ابن جريج بهذه الزيادة , وزيادة الثقة مقبولة . قال : والأصل أن ما كان موصولا بالحديث فهو منه , لا سيما إذا روي من وجهين : إلا أن تقوم دلالة على التمييز , قال : والظاهر أن قوله : هي له تطوع , ولهم مكتوبة من قول جابر , وكان أصحاب رسول الله ﷺ أعلم بالله وأخشى له من أن يقولوا مثل هذا إلا بعلم، وحين حكى الرجل لرسول الله ﷺ فعل معاذ لم ينكر عليه إلا التطويل .
( فإن قالوا ):لعل معاذا كان يصلي مع رسول الله ﷺ نافلة وبقومه فريضة ( فالجواب) من أوجه :
( أحدها ) :أن هذا مخالف لصريح الرواية.
( الثاني ): الزيادة التي ذكرناها هي له تطوع , ولهم مكتوبة العشاء , صريح في الفريضة , ولا يجوز حمله على تطوع .
( الثالث ) :جواب الشافعي والخطابي وأصحابنا وخلائق من العلماء : أنه لا يجوز أن يظن بمعاذ مع كمال فقهه وعلو مرتبته أن يترك فعل فريضة مع رسول الله ﷺ وفي مسجده , والجمع الكثير المشتمل على رسول الله ﷺ وعلى كبار المهاجرين والأنصار , ويؤديها في موضع آخر ويستبدل بها نافلة , قال الشافعي : كيف يظن أن معاذا يجعل صلاته مع رسول الله ﷺ التي لعل صلاة واحدة معه أحب إليه من كل صلاة صلاها في عمره ليست معه , وفي الجمع الكثير – نافلة ؟ .
( الرابع ) : جواب الخطابي وغيره , ولا يجوز أن يظن بمعاذ أنه يشتغل بعد إقامة الصلاة لرسول الله ﷺ لأصحابه بنافلة مع قوله ﷺ{إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة} وعن جابر رضي الله عنه قال{ أقبلنا مع رسول الله ﷺ حتى إذا كنا بذات الرقاع وذكر الحديث إلى أن قال فنودي بالصلاة فصلى النبي ﷺ بطائفة ركعتين ثم تأخروا , وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين فكانت لرسول الله ﷺ أربع ركعات وللقوم ركعتان } رواه البخاري ومسلم وعن أبي بكرة قال : { صلى النبي ﷺ في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو فصلى بهم ركعتين ثم سلم فانطلق الذين صلوا معه فوقفوا موقف أصحابهم ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ثم سلم فكانت لرسول الله ﷺ أربعا ولأصحابه ركعتين ركعتين } رواه أبو داود والنسائي بإسناد حسن .
واستدل الشافعي أيضا بالقياس على صلاة المتم خلف القاصر , وأما الجواب عن حديث { إنما جعل الإمام ليؤتم به } فهو أن المراد ليؤتم به في الأفعال لا في النية ; ولهذا قال ﷺ { إنما جعل الإمام ليؤتم به , فإذا كبر فكبروا , وإذا سجد فاسجدوا } إلى آخره.