قرر الفقهاء أن العقل هو مناط التكليف، وأن من ذهب عقله لا تكليف عليه، غير أنهم تكلموا عن مظاهر غياب العقل فعدوا منها الجنون، والإغماء والسفه، والسكر، وقد وجدنا في عصرنا فقدان الذاكرة، ومرض الخرف – التخريف، فالظاهر أن من ابتلي بهذه الأمراض فلا تكليف عليه من صلاة ولا صوم، ولا يجب عليه قضاء هذه العبادات، فإذا كان يفيق في بعض الأوقات كلف وقت إفاقته، ومن ابتلي بهذه الأمراض مدة قصيرة كاليوم واليومين، ثم شفاه الله، فالأفضل له أن يقضي ما فاته من العبادات خروجا من الخلاف.
فوالدك لا يكلف إلا بقدر وعيه وإدراكه، فإذا ظن أنه صلى فلا تأمره بالصلاة، بل اسأله أولا: هل صليت صلاة كذا، فإن ظن أنه صلاها فقد انتهى أمرها بالنسبة له؛ ولا إثم عليه، وإن أدرك أنه لم يصلها فساعده على أدائها.
وكذلك في مسألة الطهارة لا يكلف إلا بما يدركه، حتى لو كان لا يحسن الطهارة، ولكن إن رأيتم عليه شيء من النجاسة فأزيلوها.
أحكام المجنون والمغمى عليه ومن في غيبوبة في الشرع
يقول الدكتور يوسف القرضاوي:-
إذا كان غير البالغ ليس مُكلفًا، فغير العاقل من باب أولى، لأن خطاب الشارع إنما هو موجه إلى العقلاء، وقد رفع القلم عن المجنون حتى يفيق. فمن كان من ذوي الجنون المطبق، فلا يتوجه إليه تكليف، لا بأمر ولا بنهى، ولا بعبادة، ولا بمعاملة، فقد رفع عنه القلم.
ومن كان جنونه متقطعًا، فهو مكلف في المدة التي يعود إليه فيها عقله فقط.
وألحق بعض الفقهاء به من يعتريه إغماء أو غيبوبة مرضية، يفقد فيها وعيه مدة تقصر أو تطول، فهو خلال غيبوبته غير مكلف بصلاة ولا صيام.
فإذا أفاق بعد أيام من إغمائه وغيبوبته، فليس عليه أن يقضي صيام تلك الأيام الماضية، لأنه كان فيها غير أهل للتكليف.
وبعضهم رأى أن عليه قضاء ما فاته أثناء الإغماء، أو الغيبوبة، معللاً ذلك بأن الإغماء مرض، وهو مغط للعقل غير رافع للتكليف، ولا تطول مدته، ولا تثبت الولاية على صاحبه، ويدخل على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
ورأيي أن هذا مسلَّم في الإغماء القصير الذي يستغرق يوما أو يومين، أو نحو ذلك، أما الغيبوبة الطويلة التي عرفها الناس في عصرنا، والتي قد تمتد إلى شهر أو أشهر أو سنين ! وخصوصًا مع أجهزة الإنعاش الصناعي، فهذه أشبه بحالة الجنون، الرافع للتكليف في حالة وجوده، وتكليف مغيَّب الوعي هنا بالقضاء فيه حرج عليه، وما جعل الله في الدين من حرج.
وقال الإمام السيوطي في الأشباه والنظائر :-
قال رسول الله : ﷺ { رفع القلم عن ثلاث : عن النائم ، حتى يستيقظ ، وعن المبتلى حتى يبرأ ، وعن الصبي حتى يكبر } .
هذا حديث صحيح ، أخرجه أبو داود بهذا اللفظ . من حديث عائشة رضي الله عنها . وأخرجه من حديث علي وعمر بلفظ : { عن المجنون حتى يبرأ ، وعن النائم حتى يعقل }.
وأخرجه أيضا عنهما بلفظ { عن المجنون حتى يفيق } ، وبلفظ { عن الصبي ، حتى يحتلم } وبلفظ { حتى يبلغ } .
وذكر أبو داود : أن ابن جريج رواه عن القاسم بن يزيد عن علي عن النبي ﷺ فزاد فيه { والخرف }- التخريف –
وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس ، وشداد بن أوس ، وثوبان والبزار من حديث أبي هريرة .
هل يسقط التكليف على من أصيب بالخرف
قال الشيخ أبو إسحاق : ” العقل ” صفة يميز بها الحسن والقبيح ، قال بعضهم : ويزيله الجنون والإغماء والنوم .
وقال الغزالي : الجنون يزيله ، والإغماء يغمره ، والنوم يستره . قال السبكي : وإنما لم يذكر المغمى عليه في الحديث ; لأنه في معنى النائم ، وذكر الخرف في بعض الروايات , وإن كان في معنى المجنون ؛ لأنه عبارة عن اختلاط العقل بالكبر ، ولا يسمى جنونا ؛ لأن الجنون مرض يقبل العلاج ، والخرف خلاف ذلك ; ولهذا لم يقل في الحديث ” حتى يعقل ” لأن الغالب أنه لا يبرأ منه إلى الموت.
قال : ويظهر أن الخرف رتبة بين الإغماء والجنون ، وهي إلى الإغماء أقرب. انتهى .
واعلم : أن الثلاثة قد يشتركون في أحكام ، وقد ينفرد النائم عن المجنو. والمغمى عليه تارة يلحق بالنائم ، وتارة يلحق بالمجنون.
فقضاء الصلاة إذا استغرق ذلك الوقت ، يجب على النائم ، دون المجنون، والمغمى عليه كالمجنون .
وقضاء الصوم إذا استغرق النهار ، يجب على المغمى عليه بخلاف المجنون. والفرق بينه وبين الصلاة كثرة تكررها, ونظيره: وجوب قضاء الصوم على الحائض والنفساء، دون الصلاة. وأما النائم: إذا استغرق النهار وكان نوى من الليل ، فإنه يصح صومه على المذهب – أي المذهب الشافعي.
وجاء في عون المعبود : الخرف هو فساد العقل بسبب كبر السن، فإن الشيخ الكبير قد يعرض له اختلاط عقل يمنعه من التمييز ويخرجه عن أهلية التكليف، ولا يسمى جنونا، لأن الجنون يعرض من بعض الأمراض ، ويقبل العلاج، والخرف بخلاف ذلك، ولو برئ منه في بعض الأوقات برجوع عقله إليه تعلق به التكليف. والخرف والجنون أحكامهما واحدة، وبينهما تقارب، ويظهر أن الخرف رتبة متوسطة بين الإغماء والجنون، وهي إلى الإغماء أقرب. اهـ ملخصا.
وعليه :فالشخص الخرف غير مكلف حال خرفه، ولا تصح عباداته ولا تصرفاته ببيع ولا شراء، بل يمنع من ذلك، ولا يلام على ما يصدر منه من تصرفات غير سوية.
هل على المغمى عليه قضاء الصلاة
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية:-
ذهب المالكية والشافعية ، وهو قول عند الحنابلة ، إلى أن المغمى عليه لا يلزمه قضاء الصلاة إلا أن يفيق في جزء من وقتها , مستدلين بأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله ﷺ عن الرجل يغمى عليه فيترك الصلاة ، فقال ﷺ : { ليس من ذلك قضاء ، إلا أن يغمى عليه فيفيق في وقتها فيصليها } .
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ـ صاحب أبي حنيفة ـ : إن أغمي عليه خمس صلوات قضاها ، وإن زادت سقط فرض القضاء في الكل ، لأن ذلك يدخل في التكرار فأسقط القضاء كالجنون ، وقال محمد ـ صاحب أبي حنيفة ـ : يسقط القضاء إذا صارت الصلوات ستا ودخل في السابعة ، لأن ذلك هو الذي يحصل به التكرار .
لكن أبا حنيفة وأبا يوسف أقاما الوقت مقام الصلوات تيسيرا فتعتبر الزيادة بالساعات .
وذهب الحنابلة في المشهور عندهم إلى أن المغمى عليه يقضي جميع الصلوات التي كانت في حال إغمائه ، مستدلين بما روي أن عمارا غشي عليه أياما لا يصلي ، ثم استفاق بعد ثلاث ، فقال ( أي عمار ) : هل صليت ؟ فقالوا : ما صليت منذ ثلاث ، فقال : أعطوني وضوءا فتوضأ ثم صلى تلك الليلة . وروى أبو مجلز أن سمرة بن جندب قال : المغمى عليه يترك الصلاة يصلي مع كل صلاةٍ صلاةً مثلها قال : قال عمران : زعم ، ولكن ليصلهن جميعا ، وروى الأثرم هذين الحديثين في سننه وهذا فعل الصحابة وقولهم , ولا يعرف لهم مخالف فكان إجماعا .
ولأن الإغماء لا يسقط فرض الصيام ، ولا يؤثر في استحقاق الولاية على المغمى عليه فأشبه النوم . (انتهى)