إن سماع الأنبياء والشهداء لمن يُسلِّم عليهم في قبورهم أمر يسهُل التصديق به ما دامت الحياة قد ثبتت لهم، وبخاصة أن هذا السماع ممكن لغيرهم، بل دلَّ الدليل عليه، ويستوي في ذلك المؤمنون وغير المؤمنين، لما يأتي:
1 ـ جاء في الصحيح أن الميت إذا دُفِنَ وتولَّى عنه أصحابه وهو يسمع قَرْعَ نعالهم يجيئه الملكان ليسألاه…
2 ـ وجاء في الصحيح أيضًا نداء النبي ـ ﷺ ـ لقتْلى المشركين في بدر بعد إلقائهم في القليب، وقوله لهم: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًّا.. فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: يا رسول الله ما تخاطب من أقوام قد جِيفوا؟ فقال “والذي بعثني بالحق ما أنتم بأسمعَ منهم لما أقول، ولكنَّهم لا يستطيعون جوابًا”.
3 ـ وفي الصحيح أيضًا “إن الميت ليُعَذَّب ببكاءِ أهله عليه” قال النووي في شرح صحيح مسلم: معناه أنه يُعَذَّب بسماعه بكاء أهله ويرِقُّ لهم.
وإلى هذا ذهب الطبري، قال القاضي عياض: وهو أوْلى الأقوال، واحتجوا له بأن النبي ـ ﷺ ـ زجَرَ امرأة عن البكاء على ابنها وقال: “إن أحدكم إذا بكى استعبر له صويحبه، فياعباد الله لا تُعَذِّبوا إخوانكم.
4 ـ شرع النبي ـ ﷺ ـ لأمته السلام على أهل القبور بمثل “السلام عليكم دار قوم مؤمنين” وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد، والسلف مُجْمِعُون على ذلك.
5 ـ حديث “إذا مرَّ الرجل بقبر يعرفه فسلَّم عليه ردَّ عليه السلام وعرَفَه، وإذا مرَّ بقبر لا يعرف فسلَّم عليه ردَّ عليه السلام”.
بهذا وبغيره من الآثار الكثيرة التي ذكرها ابن القيم في كتاب الروح يكون سماع الأموات للأحياء ممكنًا، وقد أنكرت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ سماع أهل القليب لنداء النبي ـ ﷺ ـ، وظنَّ جماعة أن ذلك يَنْسَحِب على كل الموتى من الكفار وغيرهم، وردَّ هذا بأنَّ إنكارها لسماع الكفار هو الإنكار الوارد في قوله تعالى: (فإنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) (الروم: 52) وقوله: (ومَا أَنْتَ بِمُسِمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُور) ( فاطر: 22 ). فالمراد به سماع القبول والإيمان، حيث شبَّه الله الكفار الأحياء بالأموات، لا من حيث انعدام الإدراك والحواس، بل من حيث عدم قبولهم الهُدى والإيمان؛ لأن الميت حين يبلغ حدَّ الغَرْغَرَة لا ينفعه الإيمان لو آمن، فالسماع الثابت في الأحاديث الصحيحة سماع الحاسة، والسماع المنفي في الآيتين سماع القبول، ولذلك جاء بعد قوله تعالى: (فإنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) قوله تعالى (إنْ تُسْمِعُ إلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بآيَاتِنَا) فأثبت للمؤمنين سماعَ القبول.
وممَّا يُؤَكِّدُ أن عائشة ـ رضى الله عنها ـ نَفَتْ سماع القبور عن الكفار لا سماع الحِسِّ أنها هي التي روت حديث النبي ـ ﷺ ـ ” ما من رجل يزور قبرَ أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به وردَّ السلام عليه حتى يقوم ” وقيل إنها نفَت سماع الكفار لنداء النبي ـ ﷺ ـ وأثبتت عِلْمَهم به فقالت: إن رسول الله ـ ﷺ ـ قال: إنهم الآن لَيَعْلمون أن ما قلتَ حَقٌّ، والعلم يستلزم السماع ولا ينافيه. لكن قد يردُّ بأن علمهم بما قال الرسول لا يستلزم سماعهم له؛ لأنهم علموا ذلك بمعاينة العقاب المعد لهم.
ولا يُردُّ على سماع الميت ما قاله الأحناف من أن الميت لا يسمع: لو حلف الإنسان لا يكلِّم شخصًا فمات هذا الشخص وكلَّمه ميتا لا يحنث، لا يرد هذا؛ لأن الأَيْمان مبنية على العُرْف، فلا يلزم منه نفي حقيقة السماع، كما قالوا فيمن حلف لا يأكل اللَّحم فأكل السمك لا يحنث، مع أن الله سمَّاه لحمًا طريًا في قوله: ( وهوَ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْه لَحْمًا طَرِيًا ) ( النحل: 14 ). وذلك جريًا على العُرْف.
وقد يقال: إن سماع الموتى للأحياء من خصوصيات النبي ـ ﷺ ـ، لكن يُرَدُّ هذا بعدم وجود الدليل على الاختصاص.
وقال ابن تيمية في كتاب ” الانتصار للإمام أحمد “: إنكار عائشة سماع أهل القليب معذورة فيه لعدم بلوغها النص، وغيرها لا يكون معذورًا مثلها؛ لأن هذه المسألة صارت معلومة من الدين بالضرورة.