لقد تحدث القرآن الكريم عن أهل الكهف الذين كانوا قبل الإسلام بأن من عثروا عليهم بنوا مسجدًا على قبورهم كما قال تعالى: {فقالوا ابنوا عليهم بنيانًا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدًا} [سورة الكهف: 21] وصح في البخاري ومسلم “مسلم ج5 ص11” أن أم حبيبة وأم سلمة –وكانتا من المهاجرين إلى الحبشة- ذكرتا لرسول الله ﷺ كنيسة رأتاها في الحبشة فيها تصاوير لرسول، فقال “إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة” وجاء في صحيح مسلم عن عائشة أن الرسول ﷺ قال في مرضه الأخير “لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد” قالت عائشة: فلولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشى أن يتخذ مسجدًا.
وفي بعض الروايات أنه ﷺ قال ذلك قبل أن يموت بخمس كما قاله جندب، ولما احتاج الصحابة إلى الزيادة في مسجده وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة مدفن الرسول وصاحبيه أبي بكر وعمر –بنوا على القبر حيطانًا مرتفعة مستديرة حوله، لئلا يظهر في المسجد فيصلى إليه العوام، ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين حتى التقيا، حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر.
– يؤخذ من هذا أن الإسلام لا يوافق على ما فعله اليهود والنصارى من بناء المساجد على القبور، واتخاذها أماكن للعبادة، واتخاذ القبر مسجدًا يصور بصورتين: جعل مكان السجود على القبر ذاته، أو جعل القبر أمام المصلى ليتجه إليه بالعبادة، وبذلك يفسر قول النبيى ﷺ كما رواه مسلم “لا تصلوا على القبور ولا تجلسوا عليها.
حكم الأضرحة والتبرك بها:
للحيلولة دون تقديس القبور وأصحابها بالصلاة عليها أمر النبي ﷺ بعدم البناء على القبور أو رفعها، ففي صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه أن الرسول قال له لما بعثه “ولا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته، ولا صورة إلا طمستها” يقول القرطبي في تفسيره “ج10 ص379” قال علماؤنا: ظاهره منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون لاطئة بالأرض، أي لاصقة، وبه قال بعض أهل العلم، وذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بإزالته هو ما زاد على التسنيم، ويبقى للقبر ما يعرف به ويحترم، وذلك صفة قبر نبينا محمد ﷺ وقبر صاحبيه رضي الله عنهما، على ما ذكره مالك في الموطأ، وقبر أبينا آدم على ما رواه الدارقطني من حديث ابن عباس، وأما تعلية البناء الكثيرة على ما كانت تفعله الجاهلية تفيخمًا وتعظيمًا فذلك يهدم ويزال، فالزيادة حرام، والتسنيم في القبر ارتفاعه قدر شبر، مأخوذ من سنام البعير [يراجع نيل الأوطار للشوكاني ج4 ص89].
ومما ورد في النهي عن اتخاذها مساجد قول ابن عباس رضي الله عنهما: لعن رسول الله ﷺ زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج، رواه أبو داود والترمذي وحسنه، قال القرطبي: قال علماؤنا: هذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد، وروى الأئمة عن أبي مرثد الغنوي أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: “لا تصلوا على القبور ولا تجلسوا عليها”.
– ومن احتياطات العلماء لعدم الصلاة على المقابر نهوا عن الدفن في المساجد أو عمل مسجد على القبر، قال النووي في شرح المهذب ص 316 ما نصه: اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على كراهة بناء مسجد على القبر، سواء أكان الميت مشهورًا بالصلاح أو غيره، لعموم الأحاديث، قال الشافعي والأصحاب: تكره الصلاة إلى القبور، سواء كان الميت صالحًا أو غيره، قال الحافظ أبو موسى: قال الإمام الزعفراني رحمه الله: ولا يصلي إلى قبر ولا عنده تبركًا ولا إعظامًا، للأحاديث.
وأفتى ابن تيمية بأنه لا يجوز دفن ميت في مسجد، فإن كان المسجد قبل الدفن غير إما بتسوية القبر، وإما بنبشه إن كان جديدًا، وقال: لا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه وكان الحكم للسابق، كما نقله عنه ابن القيم في زاد المعاد [فتوى الشيخ عبد المجيد سليم سنة 1940 –الفتاوى الإسلامية ج2 ص 650].
حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر:
أما عن حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر فإذا كان القبر في مكان منعزل عن المسجد أي لا يصلى فيه، فالصلاة في المسجد الذي يجاوره صحيحة ولا حرمة ولا كراهة فيها أما إذا كان القبر في داخل المسجد، فإن الصلاة باطلة ومحرمة على مذهب أحمد بن حنبل، جائزة وصحيحة عند الأئمة الثلاثة، غاية الأمر أنهم قالوا: يكره أن يكون القبر أمام المصلى، لما فيه من التشبه بالصلاة إليه، لكن إذا قصد بالصلاة أمام القبر تقديسه واحترامه كان ذلك حرامًا وربما أدى إلى الشرك، فليكن القبر خلفه أو عن يمينه أو عن يساره.