لا مانع شرعا ـ على الراجح ـ من أخذ الوصي على مال اليتيم ( القصر) أجرة على ما يقوم به من رعاية مصالحه وتفرغه لذلك ،وذلك إذا كان الوصي في حاجة إلى أخذ مقابل ، أما إذا كان غنيا فعليه أن يتعفف عن مال اليتيم ، وإذا كان فقيرا محتاجا إلى هذه الأجرة فليأخذ القدر المعروف المساوي لما يقوم به من خدمات دون زيادة .

والذي يحدد هذا المقابل ، أو هذه الأجرة هو القاضي الذي عين الوصي ، وربما فرضها في مال الدولة أو في مال اليتيم ، أما إذا لم يكن الوصي معينا من القاضي فينبغي أن تشكل لجنة من ثلاثة مثلا من أهل الخبرة الموثوق بأخلاقهم ودينهم ، أو اثنان ، ويقدروا ما يستحقه الوصي مقابل أعماله .

فإذا أخذ الوصي مقابل فليعتبره قرضا ، ثم إن تيسر له رده فعل ، وإن لم يتيسر له الرد فلا حرج عليه .

وعموما : فإن التنزه عن مال اليتيم أسلم ، وأجر كفالته ورعاية عند الله تعالى .

يقول الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى : {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا} النساء: 6 ، يقول :
واختلف العلماء مَن المخاطب والمراد بهذه الآية؟ ففي صحيح مسلم عن عائشة في قوله تعالى: “ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف” قالت: نزلت في ولي اليتيم الذي يقوم عليه ومُصلحه إذا كان محتاجا جاز أن يأكل منه. في رواية: بقدر ماله بالمعروف. وقال بعضهم: المراد اليتيم إن كان غنيا وسع عليه وأعف عن ماله، وإن كان فقيرا أنفق عليه بقدره؛ قال ربيعة ويحيى بن سعيد.
والأول قول الجمهور وهو الصحيح؛ لأن اليتيم لا يخاطب بالتصرف في ماله لصغره ولسفهه.

واختلف الجمهور في الأكل بالمعروف ما هو؟

القول الأول: فقال قوم: (هو القرض إذا احتاج ويقضى إذا أيسر)؛ قاله عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة وابن جبير والشعبي ومجاهد وأبو العالية، وهو قول الأوزاعي. ولا يستسلف أكثر من حاجته. قال عمر: (ألا إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة الولي من مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف؛ فإذا أيسرت قضيت). روى عبد الله بن المبارك عن عاصم عن أبي العالية “ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف” قال: قرضا – ثم تلا “فإذا دفعتم إليهم أموالهم فاشهدوا عليهم”.

القول الثاني: روي عن إبراهيم وعطاء والحسن البصري والنخعي وقتادة: لا قضاء على الوصي الفقير فيما يأكل بالمعروف؛ لأن ذلك حق النظر، وعليه الفقهاء.

قال الحسن: هو طعمة من الله له؛ وذلك أنه يأكل ما يسد جوعته، ويكتسي ما يستر عورته، ولا يلبس الرفيع من الكتان ولا الحلل.
والدليل على صحة هذا القول إجماع الأمة على أن الإمام الناظر للمسلمين لا يجب عليه غرم ما أكل بالمعروف؛ لأن الله تعالى قد فرض سهمه في مال الله. فلا حجة لهم في قول عمر: (فإذا أيسرت قضيت) لو صح. وقد روي عن ابن عباس وأبي العالية والشعبي أن (الأكل بالمعروف هو كالانتفاع بألبان المواشي، واستخدام العبيد، وركوب الدواب إذا لم يضر بأصل المال؛ كما يهنأ ـ يعالج ـ الجرباء، وينشد الضالة، ويلوط الحوض، ويجذ التمر. فأما أعيان الأموال وأصولها فليس للوصي أخذها). وهذا كله يخرج مع قول الفقهاء: إنه يأخذ بقدر أجر عمله؛ وقالت به طائفة وأن ذلك هو المعروف، ولا قضاء عليه، والزيادة على ذلك محرمة.

القول الثالث: وفرق الحسن بن صالح بن حي – ويقال ابن حيان – بين وصي الأب والحاكم؛ فلوصي الأب أن يأكل بالمعروف، وأما وصي الحاكم فلا سبيل له إلى المال بوجه.

القول الرابع: روي عن مجاهد قال: ليس له أن يأخذ قرضا ولا غيره. وذهب إلى أن الآية منسوخة، نسخها قوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم” [النساء: 29] وهذا ليس بتجارة.

القول الخامس: وهو الفرق بين الحضر والسفر؛ فيمنع إذا كان مقيما معه في المصر. فإذا احتاج أن يسافر من أجله فله أن يأخذ ما يحتاج إليه، ولا يقتني شيئا؛ قاله أبو حنيفة وصاحباه أبو يوسف ومحمد.

القول السادس: قال أبو قلابة: فليأكل بالمعروف مما يجني من الغلة؛ فأما المال الناض فليس له أن يأخذ منه شيئا قرضا ولا غيره.

القول السابع: روى عكرمة عن ابن عباس “ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف” قال: (إذا احتاج واضطر). وقال ابن عباس أيضا والنخعي: (المراد أن يأكل الوصي بالمعروف من مال نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم؛ فيستعفف الغنى بغناه، والفقير يقتر على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال يتيمه). قال النحاس: وهذا من أحسن ما روي في تفسير الآية؛ لأن أموال الناس محظورة لا يطلق شيء منها إلا بحجة قاطعة.

وقد اختار هذا القول الطبري في أحكام القرآن له؛ فقال: “توهم متوهمون من السلف بحكم الآية أن للوصي أن يأكل من مال الصبي قدرا لا ينتهى إلى حد السرف، وذلك خلاف ما أمر الله تعالى به من قوله: – “لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم” ولا يتحقق ذلك في مال اليتيم. فقوله: “ومن كان غنيا فليستعفف” يرجع إلى أكل مال نفسه دون مال اليتيم. فمعناه ولا تأكلوا أموال اليتيم مع أموالكم، بل اقتصروا على أكل أموالكم. وقد دل عليه قوله تعالى: “ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا” [النساء: 2] وبان بقوله تعالى: “ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف” الاقتصار على البلغة، حتى لا يحتاج إلى أكل مال اليتيم؛ فهذا تمام معنى الآية.

فقد وجدنا آيات محكمات تمنع أكل مال الغير دون رضاه، سيما في حق اليتيم. وقد وجدنا هذه الآية محتملة للمعاني، فحملها على موجب الآيات المحكمات متعين. فإن قال من ينصر مذهب السلف: إن القضاة يأخذون أرزاقهم لأجل عملهم للمسلمين، فهلا كان الوصي كذلك إذا عمل لليتيم، ولم لا يأخذ الأجرة بقدر عمله؟ قيل له: اعلم أن أحدا من السلف لم يجوز للوصي أن يأخذ من مال الصبي مع غنى الوصي، بخلاف القاضي؛ فذلك فارق بين المسألتين. وأيضا فالذي يأخذه الفقهاء والقضاة والخلفاء القائمون بأمور الإسلام لا يتعين له مالك.

وكان شيخنا الإمام أبو العباس يقول: إن كان مال اليتيم كثيرا يحتاج إلى كبير قيام عليه بحيث يشغل الولي عن حاجاته ومهماته فرض له فيه أجر عمله، وإن كان تافها لا يشغله عن حاجاته فلا يأكل منه شيئا؛ غير أنه يستحب له شرب قليل اللبن وأكل القليل من الطعام والسمن، غير مضر به ولا مستكثر له، بل على ما جرت العادة بالمسامحة فيه. وما ذكرته من الأجرة، ونيل اليسير من التمر واللبن كل واحد منهما معروف؛ فصلح حمل الآية على ذلك.

والاحتراز عنه أفضل، إن شاء الله. ( انتهى).