اتفق الفقهاء أن العدة في الوفاة تبدأ من لحظة التحقق من موت الزوج ، أي من يوم الوفاة؛ لا من اليوم الثالث ، فيوم الموت يحسب من العدة إن مات بالنهار ، وتنتهي بعد أربعة أشهر قمرية وعشرة أيام ، قال تعالى : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) ، وإذا كانت حاملا فتنتهي عدتها بوضع الحمل ( الولادة) ، لقوله تعالى : ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ).

يقول الدكتور يوسف القرضاوي :
كان للعرب في الجاهلية ضرب من التقاليد والأنظمة والشعائر الغريبة المتوارثة بينهم، في معاملة هذه المرأة المسكينة، تتمثل فيما يلي:

أولا: روى البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عباس قال:

“كانوا إذا مات الرجل، كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها”.

وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: كان أهل يثرب، إذا مات الرجل منهم في الجاهلية، ورث امرأته من يرث ماله، فكان يعضلها، حتى يتزوجها، أو يزوجها من أراد..

وفي هذه الحالات وأمثالها نزل قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها، ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن… الآية).

ثانيا: لم يكن لها نصيب في تركة زوجها، مهما خلف وراءه من ثروة وأموال، ومهما تكن حاجتها إلى النفقة والكفاية، “ولا عجب في ذلك مادامت هي شيئا يورث كالدابة والمتاع الذي يورث ولا يرث. وكانت نظرية العرب أن المرأة لا حق لها في الميراث، إذ لا يرث عندهم إلا من حمل السلاح، وذاد عن الحمى، وهم الرجال فقط، لا النساء ولا الصبيان.

ومما ذكره المفسرون هنا: قصة كبيشة بنت معن بن عاصم، توفى عنها أبو قيس بن الأسلت فجنح عليها ابنه، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، لا أنا ورثت زوجي، ولا أنا تركت فأتزوج! فأنزل الله الآية السابقة.

قال ابن كثير: فالآية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية، وكل ما كان فيه نوع من ذلك.

وقد ورث الإسلام الزوجة في جميع الأحوال، ما بين ربع التركة وثمنها (الربع إن لم يكن للزوج ذرية، والثمن إن كان له).

ثالثا: كانت المرأة العربية في الجاهلية، إذا مات عنها زوجها، تؤمر بأن تدخل مكانا رديئا، وتلبس شر ثيابها، ولا تمس طيبا، ولا تتزين بزينة مدة سنة كاملة. فإذا تمت السنة، أوجبت عليها التقاليد الجاهلية أن تقوم بعدة أعمال أو شعائر لا معنى لها، وإنما هي من ضلال الجاهلية وسخفها: من أخذ بعرة ورميها، إذا مر بها كلب، ومن ركوب دابة مثل حمار أو شاة!

إحداد المعتدة المتوفى عنها زوجها في الإسلام

فلما جاء الإسلام رفع عنها ما كانت تلقاه من ظلم وعنت، سواء من الأهل أم من قرابة الزوج، أم من المجتمع كله.

ولم يوجب عليها بعد الوفاة إلا ثلاثة أمور: الاعتداد، والإحداد ولزوم البيت.

والمراد بالاعتداد: أن تتربص بنفسها، ولا تتزوج مدة أربعة أشهر وعشرة أيام، إذا لم تكن حاملا، فإن كانت حاملا فعدتها وضع الحمل.

ويلاحظ أن مدة العدة هنا -في غير حالة الحمل- أطول قليلا من عدة المطلقة (وهي ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر). وذلك لأن الزوج يترك وراءه من مشاعر الأسى والحزن في نفس الزوجة، وفي أنفس أهله وأقربائه ما لا يتركه الطلاق. فلزم أن تطول المدة قليلا، حتى تخف حدة الحزن، وتبرد عواطف الأسى، ومظاهر الكآبة من قبل الزوجة، ومن قبل أهل المتوفى.

أما الحداد: فالمراد به أن تجتنب المعتدة مظاهر الزينة والإغراء، مثل الاكتحال واستعمال الأصباغ والمساحيق، التي تتجمل بها المرأة عادة لزوجها ومثل أنواع الطيب والعطور والحلي والثياب الزاهية والمغرية.

ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أم حبيبة وزينب بنت جحش أماّ المؤمنين رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث (أي ثلاث ليال) إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا”.

وفي الصحيحين عن أم سلمة: أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفى عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفتكتحل؟ فقال: لا… كل ذلك يقول: لا، مرتين أو ثلاثا. ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشرا. وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة”.

وفيهما عن أم عطية: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تحد امرأة فوق ثلاثة أيام، إلا على زوجها، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا، ولا تلبس ثوبا مصبوغا، إلا ثوب عصب ولا تكتحل، ولا تمس طيبا، إلا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها، بنبذة من قسط أو ظفار”.

والمراد بثوب العصب ما صبغ بالعصب، وهو نبت ينبت باليمن.

وروى أبو داود والنسائي عن أم سلمة: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشقة، ولا الحلي، ولا تختضب، ولا تكتحل..”

وفي حديث آخر رواه أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: “لا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب. قالت: قلت: بأي شيء أمتشط؟ قال: بالشذر تغلفين به رأسك”.

والأمر الثالث الذي يلزم المتوفى عنها زوجها: أن تلزم بيتها الذي مات زوجها وهي فيه، لا تغادره طوال أشهر العدة. كما روت فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري: أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن زوجها خرج في طلب أعبد (عبيد) له، فقتلوه بطرف القدوم. فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي، فإن زوجي لم يتركني في مسكن أملكه ولا نفقة فقال: “امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله. فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا”. ولأن بقاءها في بيتها أليق بحالة الحداد الواجبة عليها، وأسكن لأنفس أهل الزوج المتوفى، وأبعد عن الشبهات.

لكن يجوز لها أن تغادره لحاجة، مثل العلاج، أو شراء الأشياء اللازمة إذا لم يكن لها من يشتريها، أو الذهاب إلى عملها الملتزمة به، كالمدرسة والطبيبة والممرضة وغيرهن من النساء العاملات.

وإذا خرجت لحاجتها نهارا. فليس لها الخروج من منزلها ليلا. وقد جاء عن مجاهد قال: “استشهد رجال يوم أحد، فجاء نساؤهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلن: يا رسول الله، إنا نستوحش بالليل، أفنبيت عند إحدانا، حتى إذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا؟ فقال: تحدثن عند إحداكن ما بدا لكن، فإذا أردتن النوم، فلتؤب كل امرأة إلى بيتها”.

ولأن الخروج ليلا مظنة للريبة والتهمة، فلم يجز إلا لضرورة. وليس لها الخروج للصلاة في المسجد، أو السفر لحج أو عمرة أو غير ذلك، لأن الحج لا يفوت والعدة تفوت لأنها موقوتة بزمن.

هذه هي الأمور الثلاثة المطلوبة من المعتدة الحادة. أما ما يطلب من الناس إزاءها، فهو أنها يحرم خطبتها مدة العدة تصريحا، ويجوز تعريضا وتلميحا. كما بين ذلك القرآن الكريم حين قال: (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء، أو أكنتم في أنفسكم، علم الله أنكم ستذكرونهن، ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا، ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله، واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه، واعلموا أن الله غفور حليم).

وهذه الآية في النساء المتوفى عنهن أزواجهن، وقد رفعت الآية الجناح والحرج عند التعريض بخطبتهن، أي التلميح بذلك، مثل أن يقول: أنني في حاجة إلى الزواج، وأرغب في امرأة صالحة، ونحو ذلك، مما يفهمها أنه يريدها. كما رفعت الآية الجناح عن إكنان ذلك في النفس، لأن الإنسان لا يملك قلبه، وخواطر نفسه.

كل ما يمنع هو التصريح بالخطبة للمرأة، أو مواعدتها سرا، فذلك مما يثير الريبة، وينشر حولها الشائعات، أما أن يقول لها قولا معروفا فلا بأس.

وعندما يبلغ الكتاب أجله، وهذا كناية عن انقضاء العدة، أصبحت المرأة حرة في أن تتزوج من تشاء، وأن تخرج من البيت كما تشاء، وأن تلبس وتتزين بما تشاء، وأصبح لمن يريدها أن يخطبها صراحة لا كناية، وأن يعزم عقدة النكاح إن شاء. قال تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا. فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف، والله بما تعملون خبير).

ولا يطلب من المرأة بعد انقضاء العدة أي شيء تعلمه مما كانت تفعله في الجاهلية قديما. أو يعتقده بعض الناس حديثا.