التشريع الإسلامي ينحو دائما للتيسير ، فحرم بعض الأصناف القليلة الضارة وترك الباقي مباحا قال تعالى : (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ، وكانت الحكمة من تحريم هذه الأشياء : دفع الضرر – عن المسلم – الناتج من تناول هذه المحرمات ، وتنزيه المسلم عن القاذورات ، وتزكية نفسه المؤمنة ، كما أن في الامتناع عن المحرمات طاعة لله وخضوع له ورضا بأمره ، وحكمة تحريم الدم هي عدم انتقال الجراثيم ، وتأباه النفوس السليمة ، وفي الخنزير الدودة الشريطية المؤذية ، كما أن فيه من الدهون ما يسبب عسر الهضم وأمراض المعدة .
التضييق في المحرمات للتيسير
يقول الدكتور أحمد الشرباصي من علماء الأزهر رحمه الله تعالى :
حينما نتحدث عن موضوع التحريم الذي نحن بصدده نُسائل أنفسنا ماذا يُراد بهذا التحريم؟ أُريدَ به التيسير والإصلاح، أم أريد به التضييق والإرهاق ؟. إنَّ نَظرَة نُلْقِيهَا عَلَى كتاب الله ـ عزَّ وجل ـ تُرينا أن هذا التحريم إنما جاء في ظلال التيسير الواسع والإحلال الفسيح المَدى .
فبجوار هذه المُحَرَّمات القليلة سبق إحلال طيِّبات كثيرة، فالله تعالى قد قال: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة: 172)، وقال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرَّزْقِ) الأعراف: 32
فأنواع الأحياء في الماء أو في الهواء أو في الأرض ـ غير ما حرَّم القرآن والسنة ـ كلها من الطيِّب المُباح، الذي يجوز للإنسان أن يأكله، ويتمتع به في غير إسراف. ومعنى هذا أن التحريم هنا لم يأتِ ليَسُدَّ الباب في وجه الإنسان، وإنما جاء خِصيصًا بعد تعميم واسع، يكفي الإنسان، ويُحَقِّق له كل ما يريد في حِسِّه ونفسه، فما من شيء من هذه الأشياء المُحْرَّمَة إلا ويُقابله شيء حلال أطيب منه وأكرم، لا يَلحَقُه شيء من ناحية الفساد أو ناحية الضرر .
ثم إن هذا التحريم ليس تحريمًا أبديًّا، إذ رُوعِيَ فيه أيضًا نافذة الضرورة، فعندما تُوجد الضرورة يُصبح استعمال هذا المُحَرَّم جائِزًا، بقدر ما ندفع به هذه الضرورة .
فروح التيسير موجودة في هذا التحريم الذي جاءت به هذه الآية الكريمة .
معاني عامة لهذا التحريم
يقول الدكتور أحمد الشرباصي من علماء الأزهر رحمه الله تعالى :
أولاً : نلحظ دفع الضرر الحِسي الواقع مِن تناول هذه المُحَرَّمات، كَمَا ذَكَرَ المُفَسِّرون السابقون في تعميم، وكما ذكر المتخصصون من الأطباء والعلماء في تحليل وتفصيل .
ثانيًا : نلحظ دفع المسلم أو إبعاده عن مِنْطَقة القذارة أو الاستقذار؛ لأن من شأن المسلم أن يكون طهورًا في صلاته، طهورًا في صيامه، طهورًا في حَجِّهِ، إلى آخر أنواع الطهارة الحِسية والنفسية الموجودة في العبادات والواجبات، فمن تَتِمَّة هذا التطهير أن يُباعد الله ـ سبحانه وتعالى ـ بين المسلم وبين موطن القذارة وما يُثير معنى الاستقذار في المطعومات والمأكولات .
ثالثًا :نلحظ هنا التزكية والتكريم للنفس المؤمنة المسلمة؛ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ الذي كرَّم بني آدم يريد أن يرتفع بهم مع إيمانهم عمَّا لا يليق بكرامتهم أو ذوقهم الكريم الطيِّب، وصدق الرسول ـ ﷺ ـ حين يقول: إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا .
رابعًا : الطاعة لله الذي يستحق الطاعة وحده، ومعنى التعبد لمن يستحق العبودية لذاته، ومعنى الخضوع لمن هو المعبود بحق دون سواه، ومن هنا أرى أن الأشياء التي جاء فيها تحريم بغرض تحقيق معنى التعبد يجب أن يتوافر فيها هذا المعنى، فعندما نجد بين المُحَرَّمَات قوله تعالى: (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) (المائدة: 3)، لا نكتفي كأفراد بعدم السؤال عن مصدر “ما أهِلَّ لغيرِ اللهِ بِه” كذبائح أهل الكتاب، ورُبما لا أكون ملومًا كفرد إذا لم أعرف كيفية ذبح اللحم القادم من بلد مسيحي، ولكني أرى من واجب ولاة الأمر في بلاد الإسلام أن يُعنوا ببحث هذه الناحية، وأن يتأكدوا من أن اللحوم القادمة إلى بلاد الإسلام لحوم لا تتنافى مع شريعتهم ومعتقداتهم في جنسها وذبحها. ولا أقصد منع الضرر الصِّحي في الذبائح فقط، وإنما أقصد بجواره تحقيق الشخصية الإسلامية العامة، حيث يُدَقِّق المسلمون كدولة وأُمة فيما يُقبِل إلى مجتمعهم من الخارج، لكي يتبيَّنوا أهو موافق لتعاليمهم وأخلاقهم ومبادئهم أم ليس بموافق؟. وبهذا تبدو شخصيتهم واضحة .
وقد يُضيف الإنسان بعض الحِكَم التي تُلْحَظُ في أسباب التحريم لكل صنف من أصناف هذه المطعومات والمُحَرَّمات الواردة في الآية الكريمة.
الحكمة من عدم أكل الميتة
يقول الدكتور أحمد الشرباصي: إن من شأن الحيوان المُباح أَكْلُهُ أن يُذْبَحَ، وألا يُترك حتى يَشيخ، فهو يذبح إما في طفولته أو يَفَاعَتِهِ، وكلما كان أقرب إلى سِنِّ الشبيبة كان أطيب وأرضى للنفس، وأليق بالذوق الذي يختار ويحسن الاختيار. فإذا مات هذا الحيوان، فإما أن يموت لعلة، وإما أن يموت لشيخوخة، والعلة تستتْبع الجُرثومة، والجرثومة عُرْضَة للانتقال إلى الأكل، ثم إنَّ الدم في الميتة قد حُبِسَ، ومتى حُبِسَ الدم في الميتة تعلَّق بالجلد وتجمَّد، وتجمع حول العظام، واسودَّ وتأكْسَدَ، وَأَصْبَحَت له طبيعة أخرى غير طبيعة الدم إذا خرج من الذبيحة عند الذبح .
ومن هنا يأتي المرض من أكل الميتة. وإذا كان الحيوان قد مات لشيخوخته، فإن هذا ممَّا تَعافُ أكلَه النفوسُ السليمة، ونحن بفطرتنا الريفية نَسْتقذِرُ أن نأكلَ من لَحْم الحيوانات إذا ذُبِحَت وهي عجوز، ونرى أنها مُتحللة ومُتفانية، وأنها ضعيفة وهزيلة، وأنها تُورث الضعف أو تورث العلة في نفس الإنسان، ولو لم يكن فيها جرثومة .
الحكمة من تحريم الدم
يقول الدكتور أحمد الشرباصي-رحمه الله تعالى :
-الدم مزرعة جراثيم، ومَن تناول منه شيئًا عرَّض نفسه لهذه الجراثيم، كما أن الدم يتغير بمجرد أن يَسيل أو يخرج من الحيوان الذي كان فيه، ويتلَف ويَفْسَد، وتَتعَلَّق به جرَاثِيمُ أخرى غير الجراثيم الفاسدة الناشئة من الرواسب والفضلات، ومن السموم التي خرجت من الجسم بعد عملية الصراع بين الكُرَات الحمراء والكُرَات البيضاء داخل الجسم، كما نفهم هذا من مبادئ علم الصحة .
-والطب مثلًا يحتاط ويُوجب علينا إذا استعملنا اللبن ـ وهو في ذاته غذاء صالح ومُباح من الأصل ـ أن نغليه غليًا جيدًا، بل إن بعض الأطباء يُبالغون في أنه لا بد من أن يُغلى اللبن غليًا شديدًا مرة أو مرتين، وخصوصًا إذا كان الجسم الذي سيتناوله غير قوي البنية، فإذا كان هذا ممكنًا في شأن اللبن، فإنه لا يمكن تحقيقه فيما يتعلق بالدم؛ لأنه غير قابل لاحتمال الحرارة، ثم إن قوة الجراثيم فيه أقوى من قوة الجراثيم في اللبن. قد يُقال: إننا استحدثنا وسائل جديدة تقضي على الجراثيم بدرجات حرارة عالية، ولكن هذه الدرجات العالية في الحرارة تتكلف من الجهد، وتتكلف من إضاعة الوقت، وتتكلف اللحم الهَنيء المَريء .
-هذا إلى أن تناول الدم فيه معنى التوحش، ومعنى الانحطاط عن مستوى النفس الإنسانية، ومن شأن المسلم ألا يألف منظر الدم في غير موطن الجهاد، فأكاد أفهم أن نهي الإنسان عن شرب الدم وتناوله فيه إبعاد له عن المعاني الدموية التي فيها نوع من الوحشية والافتراس، ولذلك وجدنا الإسلام يوصينا إذا قتلنا أن نحسن القِتْلَة، وإذا ذَبَحْنَا أن نُحْسن الذِّبْحَة، وأن نُخفي السكين، ونُجْهِز على الذبيحة بأقصر وقت يُمكن، وألا نَتمَعَّن في منظر الدم حتى لا نألف هذا المعنى الدموي الثائر .
الحكمة من تحريم لحم الخنزير
يقول الدكتور أحمد الشرباصي – رحمه الله تعالى :
تُوجد لحم الخنزير الدودة الشريطية، وجرثومة المرض المُسَمَّى ( التريكينا ) ومن الأطباء والعلماء من حقَّقوا أن لحم الخنزير فيه من الدهون، والشحوم التي تختلط بعضلاته وبلحمه ما لا يَسهُل على المعدة أن تَهضمه في أغلب الأحيان، وهذا بجوار الأمراض والجراثيم الموجودة فيه، وبجوار قذارته، وبجوار العُرْف الشائع منذ أقدم العصور على أنه يُضرَب مثلًا للقذارة وللخِسَّة وعدم الغَيْرَة، وبمجرد أن يأكل الإنسان لحم الخنزير سيتذكر هذه المعاني، فكأنه يُعرِّض نفسه للتلبُّس بمعانٍ مُستقذَرة، يُوحي بها تناول هذا اللحم الخبيث، فمن الأفضل أن ينأى عنه، وبجواره طيور وأبقار وجواميس ودجاج وبط وأوز وغير ذلك من الحيوانات الطيبة .
وينبغي هنا أن نتذكر حِكْمَة الفقه عندما نهى عن أكل البهيمة الجلَّالة التي تألف القاذورات، حتى ولو كانت مُبَاحَةَ اللحم في أصلها، وهناك خلاف طويل حول النهي هنا: أهو نهي للتحريم أم نهي للكراهة؟. وبعض العلماء يذهب إلى التحريم، حتى إنَّ بعض الأشخاص الذين عندهم حيوانات من هذا القبيل كالدجاجة المُخلاة التي تألف القاذورات يحبسونها في مكان، ويُناولونها طعامًا خاصًّا لمدة أيام، حتى تتخلَّص من آثار القذارة القديمة، ولعل من آثار هذه العادة ما نجده عندنا في الريف، فهم إذا أرادوا ذبح البط أو الأوز سقَوه مقدارًا من الخَلِّ، اعتقادًا منهم بأنه يَقضي على بقية القذارة التي تكون موجودة من أكله القاذورات .
-وبعض الأطباء يقول:” لحم الخنزير هو أعسر اللحوم هضمًا؛ وذلك لأن أليافه عضلية مُحاطة بخلايا شحمية عديدة أكثر من الحيوانات الأخرى المُباح أكلها، وهذه الأنسجة الدهنية تحول دون العصير المعدي، فلا يَسْهُلُ عليه هَضْمُ المَواد الزُّلالية للعضلات، فتتعب المعدة، ويعْسر الهضم، ويُحس الإنسان ثِقلًا في بطنه، ويضطرب القلب، فإما أن يَقِيئ ما أكله فيستريح، وإما أن تهيج الأمعاء وينطلق البطن بالإسهال، فمَن يتعوَّد أكله يتعب منه كثيرًا، ومن تعوَّد وكان قوي المعدة كان الأولى به صرف قُوَّتها في الأغذية الجيدة النافعة، فإن لم يكن قوي المعدة ناله من شر هذا اللحم ما يناله “.
ثم إن الخنزير لم يكن حيوانًا مشهورَ الوجود في البيئة العربية التي ظهرت فيها دعوة الإسلام، فكان من معجزات الإسلام أنه حرَّم هذا الخنزير من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه طَبَعَ المسلمين الأوائل على لحوم طيبة هنيئة، حتى إذا ما عُرِضَ عليهم هذا اللحم الخسيس الخبيث الوبيء انصرفوا عنه، وحَمَلُوا غيرهم على الانصراف عنه ـ وقد رُوي أن الموسويَّة تُحَرِّم الخنزير، مما يؤكد أن مثل هذه المحرمات معروف تحريمها من قديم العصور .
ما يلحق بالميتة كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة
تَبْقَى بعد ذلك أصناف : كالمُنْخَنِقة والموقوذة والمتردِّية والنطيحة، وهذه مُلْحَقة بالمَيْتة. وقد يقال: فلماذا نصَّ عليها القرآن؟. لعل سبب النص هو ما تعوَّده القوم في الجاهلية أو في البيئات غير المتقيِّدَة بالآداب الإسلامية من استباحة أكل هذه الأصناف ـ فالقرآن الكريم أجمل في سورة البقرة كلمة ” الميتة .
وجاء هنا في سورة المائدة ففصَّل، حتى لا يقول أحد من الناس إن هذه الأصناف لا تدخل في معنى الميتة، أي أنه منع بالتخصيص بعد أن منع بالتعميم .
هناك أيضًا صنف من هذه الأصناف، وهو الموقوذة، ولعل من أسرار النهي عن أكلها هو أنها ضُرِبَت، ويغلب في ضربها معنى التعذيب لها، والإنسان المؤمن من شأنه ألا يرتضي تعذيب الحيوان؛ لأن الدين أمَرَ بالرفق به، فيكون أيضًا من أسرار النهي عن أكل الموقوذة إبعاد المسلم عن معنى تعذيب الحيوان، أو الرضا بتعذيب غيره له؛ لأن أكل المسلم في هذه الموقوذة سيكون تسليمًا بهذا العمل، وهو تعذيب الحيوان .