روى مسلم أن النبي ـ ـ قال لا يَشْرَبنَّ أحدُكم قائمًا، فمن نسي فليَسْتقئ” وكان من عادته ـ ـ أن يَشْرَبَ وَهُوَ قَاعِد .

لكن جاءَ في الصَّحِيحين أنه جِيء له بدَلْوٍ مِنْ مَاء زَمْزم فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِم. إن الجمع بين الحديثين ممكن، وليس أحدُهما بناسخ للآخر، فالشُّرْب قَاعدًا مُسْتَحبٌّ ومندوب إليه وليس واجبًا، ولذلك شَرِب النبي ـ ـ في بعض الأحيان قائمًا ليُبَيِّن أنه جائز، وإن كان الأفضل الشُّرْب قاعدًا، وثبت أن بعض الصحابة وبخاصة الخلفاءُ الراشدون شَرِبوا وهم قيام.

والحكمة من كراهة الشرب قائمًا لم ينصَّ عليها النبي ـ ـ وقد كانت فيها اجتهادات، ذَكر ابن القيم كثيرًا منها في كتابه ” زاد المعاد”، وذلك من واقع المعلومات الطبِّية التي كانت موجودة في عصره. والأمر يحتاج إلى توضيح جديد من ذوى الخبرة والاختصاص. والإرشاد النبوي في هذه المسألة إرشاد في أمر قيل إنه من الأمور الدُّنْيوية المَحْضة التي جاء فيها الحديث الصحيح ” أنتم أعْلمُ بأمور دُنياكم” رواه مسلم، ولكن مع ذلك لا يَخْلو من مِسْحَة دِينِيَّة هي اتباع النبي ـ ـ فيما أرشد إليه، ولعلَّ فيه حكمةً يكشف عنها العلم فيما بعد، فما دام لا يُوجَد فِيه ضَرَرٌ ينبغي أن نَحْتَرِمَه ونتأسَّى به فيه، وليس ذلك على سبيل الإلْزام، بل على سبيل النَّدْب والاسْتِحْبَاب، والخروج عنه يكون لحاجة وبأقلِّ قَدْرٍ مُمكن، حتَّى يَقْوَى فينا احترام ما أُثِرَ عنه ـ ـ ولو فيما ليس فيه قُرْبَة الله تعالى، فالاقتداء نفسه وتنفيذ أمره قُرْبَة.