يقول فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر الأسبق ـ رحمه الله ـ
أعلم أن كتاب الله العزيز منطو على وجوه من الإعجاز كثيرة وتحصيلها من جهة ضبط أنواعها في أربعة:

أولها : حسن تأليفه، والتئام كلمه، وفصاحته، ووجوه إيجازه، وبلاغته الخارقة عادة العرب، وذلك أنهم كانوا أرباب هذا الشأن، وفرسان الكلام، قد خصوا من البلاغة أوالحكم بما لم يخص به غيرهم من الأمم، وأوتوا من ذرابة اللسان ما لم يؤت إنسان، ومن فصل الخطاب ما يقيد الألباب، جعل الله لهم ذلك طبعًا وخلقة ،فما راعهم إلا رسول كريم، بكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد؛أحكمت آياته، وفصلت كلماته، وبهرت بلاغته العقول، وظهرت فصاحته على كل مقول، وتضافر إيجازه وإعجازه، وتظاهرت حقيقته ومجازه، وتبارت في الحسن مطالعه ومقاطعه، وحوت كل البيان جوامعه وبدائعه، واعتدل مع إيجازه حسن نظمه، وانطبق على كثرة فوائده مختار لفظه ، صارخًا بهم في كل حين بضعة وعشرين عامًا على رؤوس الملأ أجمعين: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) [يونس: 38]، (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين) [البقرة: 23]، (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا) [الإسراء: 88]. (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) [هود: 13

الوجه الثاني : من إعجاز القرآن صورة نظمه العجيب، والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب، ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليه، ووقفت عليه مقاطع آية، وأنتهت فواصل كلماته إليه، ولم يوجد قبله ولا بعده نظيرله، ولا استطاع أحد مماثلة شئ منه، بل حارت فيه عقولهم.

الوجه الثالث: من الإعجاز ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات، وما لم يكن ولم يقع فوقع فوجد كما ورد وعلى الوجه الذي أخبر كقوله تعالي: (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) [الفتح: 27] وقوله عن الروم (وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) [الروم: 3،4) وقوله: (ليظهره على الدين كله) [الصف: 9] وقوله: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضي لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) [النور: 55] وقوله: (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً) (النصر: 1،2) فكان جميع هذا كما أخبر، فغلبت الروم فارس، ودخل الناس في الدين أفواجاً، واتسع ملك المسلمين حتى كان لهم في وقت من أقصى بلاد الأندلس غرباً إلي أقاصي الهند شرقاً، ومن بلاد الأناضول شمالاً إلي أقاصي السودان جنوباً.

الوجه الرابع: ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة، والأمم البائدة، والشرائع الدائرة، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك، فيورده عليه الصلاة والسلام على وجهه، ويأتي به على نصه، فيقر العالم بذلك بصحته وصدقه، وإن مثله لم ينله بتعليم، وقد علموا أنه صلي الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا اشتغل بمدارسة ولا مجالسة، لم يغب عنهم، ولا جهل حاله أحد منهم وكثيراً ما كان يسأله كثير من أهل الكتاب عن هذا، فينزل عليه من القرآن ما يتلو عليهم منه ذكراً، كقصص الأنبياء، وبدء الخلق ، وما في الكتب السابقة مما صدقه فيه العلماء بها، ولم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها، ولم يؤثر أن واحداً منهم أظهر خلاف قوله من كتبه، ولا أبدى صحيحاً ولا سقيماً من صحفه بعد أن قرعهم ووبخهم بقوله: (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) [آل عمران: 93].

ومن وجوه إعجاز القرآن كونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله تعالى بحفظة فقال: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر:9] وقال: ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) [فصلت: 42] وسائر معجزات الأنبياء لم يبق إلا خبرها، والقرآن إلي وقتنا هذا حجة قاهرة ومعارضته ممتنعة.

ونختم هذا الباب بحديثه عليه الصلاة والسلام في القرآن قال: “إن الله أنزل هذا القرآن آمراً وزاجرا، وسنة خالية، ومثلاً مضروباً، فيه نبؤكم وخبر من كان قبلكم؛ ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، لا يخلقه طول الرد ولا تنقضى عجائبه. هو الحق ليس بالهزل. من قال به صدق ، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فلح، ومن قسم به أقسط، ومن عمل به أجر، ومن تمسك به هدى إلي صراط مستقيم، ومن طلب الهدى من غيره أضله الله، ومن حكم بغيره قصمه الله. هو الذكر الحكيم والنور المبين، والصراط المستقيم، وحبل الله المتين، والشفاء النافع. عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، ولا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب”.