يجدر بكل قارئ يعنيه أمر دينه ويبحث عن الحق المجرد أن يضع أمام عينه الحقائق التالية:

أولا – كثرة الأئمة المجتهدين:

إن مذاهب الفقه الإسلامي ليست محصورة في أربعة كما يظن من لا علم له، وأن الأئمة ليسوا هم مالكًا وأبا حنيفة والشافعي وأحمد فحسب، فقد عاصر هؤلاء أئمة كانوا في مثل مرتبتهم من العلم والاجتهاد إن لم يكونوا أفقه وأعلم.
كان الليث بن سعد معاصرًا لمالك، وقد قال فيه الشافعي: “الليث أفقه من مالك لولا أن أصحابه لم يقوموا به.
وكان في العراق سفيان الثوري الذي لا يقل في مرتبته الفقهية عن أبي حنيفة.
وقد عده الغزالي أحد الأئمة الخمسة في الفقه، فضلاً عن إمامته في علم السنة، حتى لقب “بأمير المؤمنين في الحديث”.
وكان الأوزاعي إمام الشام غير منازع، وقد ظل مذهبه معمولاً به هناك أكثر من مائتي عام.

وكان الطبري بعد هؤلاء مجتهدًا مطلقًا، وإمامًا في الفقه، كما هو إمام في التفسير والحديث والتاريخ، وكان لمذهبه أتباع ثم انقرضوا.
وقبل الأئمة الأربعة كان هناك أئمة وأساتذة لهم، بل لشيوخهم وشيوخ شيوخهم، يشار إليهم بالبنان: بحوز علم ومصابيح هدى. وأي دارس للعلم يجهل مثل: سعيد بن المسيب، والفقهاء السبعة بالمدينة، وطاووس وعطاء وسعيد بن جبير، وعكرمة، والحسن، وابن سيرين، والشعبي، والأسود، وعلقمة، وإبراهيم، ومسروق، ومكحول، والزهري، وغيرهم من فقهاء التابعين الذين تخرجوا في مدرسة الصحابة رضوان الله عليهم؟ والذين كان الأئمة بعدهم عيالاً عليهم، وقبل هؤلاء كان فقهاء الصحابة الذين تخرجوا في مدرسة النبوة، وشاهدوا أسباب تنزيل القرآن وورود الحديث، وكانوا أصفى فهمًا للدين، وأعلم بمقاصد القرآن، وأدرى بدلالات اللغة وألفاظها. ومن يجهل فقه أبي بكر وعمر وعلي وعثمان وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وعائشة وغيرهم من أئمة الصحابة الذين بهم يقتدي فيهتدي؟

ثانيا – الأئمة الأربعة لم يدَّعوا لأنفسهم العصمة:
إن الأئمة الأربعة – كغيرهم من المجتهدين – لم يدعوا لأنفسهم العصمة، ولم يزعمها لهم أحد من العلماء، وغاية الأمر أنهم مجتهدون يتحرون الصواب ما وسعتهم طاقتهم البشرية فإن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر، ولهذا كانوا كثيرًا ما يرجعون عن آرائهم، ويختارون غيرها تبعًا لما ظهر لهم من الدليل، وهذا سر ورود أكثر من رواية في المسألة الواحدة عن الإمام الواحد، وقد عرف أن الشافعي كان له مذهبان: مذهب قديم في العراق، ومذهب جديد في مصر، ولا تكاد تخلو مسألة مهمة من الفقه إلا ولمالك وأحمد فيها أكثر من رواية، وقد رجع أبو حنيفة عن بعض آرائه قبل موته بأيام.

وقبلهم كان عمر يفتي برأي في عام ثم يفتي بما يخالفه في العام القابل، فإذا سئل في ذلك قال: ذلك على ما علمنا، وهذا على ما نعلم!
وقد خالف أبا حنيفة أصحابه في مئات من المسائل لما لاح لهم من الأدلة، أو وصل إليهم من الآثار، أو أدركوا من مصالح الناس وحاجاتهم بعد إمامهم، ولهذا كثيرًا ما يقول بعض علماء الحنفية في المسائل الخلافية “هذا اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان” (قد عقد ابن القيم فصلاً ممتعًا في: إعلام الموقعين عن “تغير الفتوى بتغير الأزمان” ينبغي أن يراجع).

وحين اجتمع أبو يوسف أكبر أصحاب أبي حنيفة وأفضلهم بإمام دار الهجرة مالك ابن أنس، وسأله عن مقدار الصاع ومسألة الأحباس – الوقف – وصدقة الخضروات، فأخبره مالك بما دلت عليه السنة في ذلك، فقال: “رجعت لقولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي – يعني أبا حنيفة – ما رأيت، لرجع كما رجعت”. وهذا هو الإنصاف الذي يثمره العلم الراسخ، والاجتهاد الصحيح. وكل ما جاء عن الأئمة -رحمهم الله- يؤكد هذه الحقيقة الناصعة.

قال أبو حنيفة: “هذا رأيي، وهذا أحسن ما رأيت، فمن جاء برأي خير منه قبلناه”.
وقال مالك: “إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة”. وقال الشافعي: “إذا صح الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط، وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي”.
ومن روائع ما يروى عنه قوله: “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”.

ثالثا- لا دليل على وجوب تقليد مذهب بعينه:
إن اتباع مذهب من هذه المذاهب، وتقليد إمامه في كل ما يقول ليس فرضًا ولا سنة، فقول بعض المؤلفين: “إن تقليد إمام معين واجب”، قول مرفوض.
أ – فقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله تعالى إنما افترض على العباد طاعته وطاعة رسوله، ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما أمر به ونهى عنه إلا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصومًا في كل ما أمر به ونهى عنه إلا رسوله -صلى الله عليه وسلم- ولهذا جاء عن ابن عباس وعطاء ومجاهد ومالك بن أنس أنهم كانوا يقولون: ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه ومردود عليه إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وإذن فاتباع غير المعصوم في كل ما يقوله ضلال بين، إذ يجعل كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي في أمته، وهذا تبديل للدين، وشبيه بما عاب الله به النصارى في قوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) (التوبة: 31). وما ذاك إلا أنهم كانوا يطيعونهم فيما يحللون ويحرمون، كما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

ب – على أن الأئمة أنفسهم قد نهوا عن تقليدهم، ولم يزعموا يومًا أنهم يشرعون للناس دينًا يجب أن يتبع، وحذروا من أخذ أقوالهم بغير حجة، فقال الشافعي: “مثل الذي يطلب العلم بلا حجة، كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيه أفعى، تلدغه وهو لا يدري”.
وقال المزني في أول مختصره: “اختصرت هذا من علم الشافعي ومن معنى قوله؛ لأقربه على من أراده – مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره – لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه”.

وقال أحمد: “لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا الثوري ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا” وقال: “من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال”.
وقال أبو يوسف: “لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا” (ذكر هذه الأقوال ابن القيم في: إعلام الموقعين 2/139 ط منير).

ج-  إن تقليد هذه المذاهب والتعصب لها أمر مبتدع في هذه الأمة، مخالف لهدي السلف والقرون الثلاثة الأولى، يقول صاحب “تقويم الأدلة” (لمؤلفه العلامة أبي زيد الدبوسي). :
(كان الناس في الصدر الأول – أعني الصحابة والتابعين والصالحين – يبنون أمورهم على الحجة، فكانوا يأخذون بالكتاب ثم السنة، ثم بأقوال من بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يصح بالحجة، فكان الرجل يأخذ بقول عمر في مسألة ثم يخالفه بقول عليّ في مسألة أخرى، ولم يكن المذهب في الشريعة عمريًا ولا علويًا، بل النسبة كانت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكانوا قرونًا أثنى عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخير، فكانوا يرون الحجة لا علماءهم ولا نفوسهم، فلما ذهبت التقوى عن عامة القرن الرابع وكسلوا عن طلب الحجج، جعلوا علماءهم حجة واتبعوهم، فصار بعضهم حنفيًا وبعضهم مالكيًا وبعضهم شافعيًا، ينصرون الحجة بالرجال، ويعتمدون الصحة بالميلاد على ذلك المذهب).

وقال الشيخ الإمام عز الدين بن عبد السلام: (لم يزل الناس يسألون من اتفق من العلماء من غير تقييد بمذهب، ولا إنكار على أحد من السائلين، إلى أن ظهرت هذه المذاهب، ومتعصبوها من المقلدين؛ فإن أحدهم يتبع إمامه مع بعد مذهبه عن الأدلة مقلدًا له فيما قال، كأنه نبي أرسل، وهذا نأي عن الحق، وبعد عن الصواب لا يرضى به أحد من أولي الألباب).

وإذًا فالواجب على المسلم إذا تعذر عليه إدراك الأحكام من أدلتها أن يسأل أهل الذكر، ولا يجب عليه التزام مذهب معين؛ إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، وهما لم يوجبا على أحد أن يكون حنفيًا أو شافعيًا أو غير ذلك، قال شارح “مسلم الثبوت”: (فإيجابه تشريع شرع جديد) (انظر مقدمة “مقارنة المذاهب” للأستاذ الأكبر الشيخ شلتوت، والشيخ محمد السايس).

رابعا-مخالفة إمام ليست طعنًا في إمامته:
إن مخالفة الأئمة الأربعة كلهم أو بعضهم ليست طعنًا في إمامتهم، ولا حطّا من شأنهم، ولا قدحًا في سعة علمهم، وصحة اجتهادهم، وصدق تحريهم للحق، ومن ظن ذلك فقد جهل حقيقة هذه الأمة وتاريخها.
بل إن حب هؤلاء الأعلام وتوقيرهم والثناء عليهم، من صميم دين الإسلام، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمة كتابه: “رفع الملام عن الأئمة الأعلام”: (يجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين، كما نطق به القرآن، خصوصًا للعلماء الذين هم ورثة الأنبياء، والذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدي بها في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم وروايتهم. . . فإنهم خلفاء الرسول في أمته، والمحيون لما مات من سنته، بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا. . . ) (انظر: رفع الملام عن الأئمة الأعلام).

قال ابن القاسم: (سمعت مالكًا والليث يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ليس كما قال ناس فيه توسعة (بلى، فيه توسعة ورحمة كما جاء ذلك عن عمر بن عبد العزيز، والقاسم بن محمد، كما نقل ذلك ابن عبد البر وغيره؛ لأنهم كانوا أسوة لمن بعدهم في التسامح وتقدير رأي الآخرين، وإن كان أحد الرأيين خطأ، ليس كذلك، إنما هو خطأ وصواب. وقال مالك أيضًا في اختلافهم: مخطئ ومصيب، وعليك بالاجتهاد) (الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 6/883).
فإذا كان الصحابة الكرام – في نظر مالك والليث – منهم المخطئ والمصيب، فما بالك بغيرهم؟!

خامسا – ابن حزم يحرم التقليد:
اخترنا أخف العبارات في شأن التقليد، فذكرنا أنه ليس واجبًا ولا سنة. ولكن أمانة العلم توجب علينا أن نطلع القارئ المسلم على ما ذكره فقيه قوي الحجة كابن حزم حيث قال: (إن التقليد حرام، ولا يحل لأحد أن يأخذ قول أحد غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلا برهان):
أ – لقوله تعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) (الأعراف: 3). وقوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا) (البقرة: 170). وقال مادحًا لمن لم يقلد: (فبشر عباد. الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب) (الزمر: 17، 18).

ب – وقال تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) (النساء: 59). فلم يبح الله تعالى الرد عند التنازع إلي أحد دون القرآن والسنة، وحرم كذلك الرد عند التنازع إلي قول قائل؛ لأنه غير القرآن والسنة.

ج- – وقد صح إجماع الصحابة كلهم، أولهم عن آخرهم، وإجماع التابعين كلهم، أولهم عن آخرهم، وإجماع تابعي التابعين، أولهم عن آخرهم، على الامتناع والمنع من أن يقصد منهم أحد إلي قول إنسان منهم أو من قبلهم، فيأخذه كله. فليعلم من أخذ بجميع أقوال أبي حنيفة أو جميع أقوال مالك أو جميع أقوال الشافعي أو جميع أقوال أحمد – رضي الله عنهم – ولم يترك قول من اتبعه منهم أو من غيرهم إلي قول إنسان بعينه، أنه قد خالف إجماع الأمة كلها، أولها عن آخرها، بيقين لا إشكال فيه، وأنه لا يجد لنفسه سلفًا ولا إنسانًا في جميع الأعصار المحمودة الثلاثة؛ فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، نعوذ بالله من هذه المنزلة.

د – وأيضًا فإن هؤلاء الفقهاء كلهم قد نهوا عن تقليدهم، فقد خالفهم من قلدهم.
هـ- – وأيضًا فما الذي جعل رجلاً من هؤلاء أو من غيرهم أولى أن يقلد من عمر بن الخطاب أو علي بن أبي طالب، أو ابن مسعود، أو ابن عمر، أو ابن عباس، أو عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم؟ فلو ساغ التقليد لكان كل واحد من هؤلاء أحق أن يتبع من غيره) أ هـ (من الإحكام في أصول الأحكام).
وأولى من يوجه إليهم هذا الكلام هم العلماء الذين قرأوا القرآن والحديث، والفقه والأصول، ودرسوا اللغة والأساليب، ومع هذا لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث والمقارنة والتمحيص، إخلادًا إلى الكسل، وركونًا إلى الدعة، فإذا قام منهم من يبحث ويوازن ويرجح – كما هو شأن العالم الحق – قالوا له: قف، من أنت؟ ودع الناس على ما نشأوا عليه، وثاروا عليه كأنما يدعو إلي شئ منكر!
أما عوام الناس، فلا نسلم بقول ابن حزم أن التقليد بالنسبة لهم يكون حرامًا، ولعلنا نناقشه في مناسبة أخرى.

سادسا -غرابة الأحكام نسبية:
إن غرابة الحكم أمر نسبي، فرب حكم غريب في بيئة تراه متعالمًا مشهورًا في بيئة أخرى، ورب حكم يثير الغرابة والدهشة في عصر، يصبح في عصر آخر مسلمًا، متلقى بالرضا والقبول، ويصبح خلافه هو الغريب. فالغرابة ليست مطلقة، كما أنها ليست ثابته، بل تتغير بتغير المكان كما تختلف باختلاف الزمان.
ونضرب لذلك بعض الأمثلة: فالمجتمع الذي يتعبد أبناؤه على مذهب “الشافعي” يجدون من الغريب الشاذ أن يصلي قوم الجمعة دون ركعتين قبلها، على حين يرى المجتمع ” المالكي” عكس ذلك.

والبيئة الشافعية تستغرب أشد الغرابة أن يقرأ المصلي الفاتحة دون “بسم الله الرحمن الرحيم” خلافًا للمالكية الذين لا يقرءونها أصلاً، والحنفية الذين لا يجهرون بها. وتستغرب البيئة الشافعية صلاة المسلم إذا مس المرأة ولم يتوضأ، وصلاة من أصابته أبوال الإبل والبقر والغنم وأرواثها دون أن يغسلها، خلافًا للمالكية وغيرهم ممن يقرر: أن كل ما أكل لحمه فبوله وروثه طاهر. بل تستغرب جدًا أن يصلي المرء وقد مسه كلب مبلل، عكس مذهب مالك الذي يرى طهارة الكلب. . وهكذا.

وفي عصرنا نجد بعض الأحكام التي أفتى بها بعض الأئمة قد استقبلت في بدء أمرها بموجة من الدهشة بل الاستنكار والاستياء، وما لبثت أن شقت طريقها إلى العقول والقلوب، فاتضحت حجتها، وأضاءت وجهتها، وظهر لجمهور الأمة موافقتها لحكمة الشريعة التي جاءت بكل ما يجلب المصالح، ويدرأ المفاسد، فأصبحت مقبولة بعد رد، ومعروفة بعد إنكار.

ومن ذلك تلك التعديلات الضخمة التي أدخلت على تشريعات الأسرة التي تسمى بالأحوال الشخصية، مثل عدم إيقاع الطلاق المعلق، والذي يراد به الحمل على فعل شيء أو المنع منه، وإيقاع الطلاق الثلاث بلفظة واحدة، ومثل قانون الوصية الواجبة الذي سلمت بها ذرية الأب المتوفى من قسوة الأعمام، وإهمال الأجداد، وقد استغربه الناس أول الأمر، ثم أصبح في غاية القبول عند الأمة، وكيف لا، وأصله مأخوذ من القرآن؟

إن كلمة “الغريب” ليس لها من مدلول محدد، فإن كان المراد من الأحكام ما يخالف قول جمهور العلماء، فقد قال ابن حزم: (لقد أخرجنا علي أبي حنيفة والشافعي ومالك مئات كثيرة من المسائل، قال فيها كل واحد منهم بقول لا نعلم أحدًا من المسلمين قال قبله، فأعجبوا لهذا) (الإحكام في أصول الأحكام ص535)!.

سابعا -لا تلازم بين الصواب وشهرة الرأي:
إن الصواب ليس لازمًا للمشهور من الآراء، والخطأ ليس لازمًا للغريب، فالصواب والخطأ لا يتبعان الشهرة ولا الغرابة عند المحققين من العلماء، فكم من حكم مشهور إذا نوقشت أدلته تهاوت دعائمه، وخارت قواه. وكم من حكم غريب يبدو بأدلته في وضوح الشمس ليس دونها سحاب.

والمسلم الذي يتحرى لدينه يجب أن يكون معياره لمعرفة الحق هو قوة الحجة ونصاعة الدليل، لا شهرة الرأي، أو كثرة القائلين به والذاهبين إليه.
ولو كان مقياس الحق هو اتباع الأغلبية له، وإيمان الأكثرية به، لكان الإسلام باطلاً بين الأديان الضالة والنحل المضلة، التي يعد أتباعها مئات الملايين، وقد قال تعالى: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) (يوسف: 103). (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) (الأنعام: 116). (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) (الرعد: 1). (ولكن أكثرهم لا يعلمون) (الأنعام: 37). (لا يعقلون) (الحجرات: 4). (لا يشكرون) (يونس: 60).
وقد خالف عبد الله ابن مسعود جمهور الناس في بعض المواقف والآراء، فسأله بعض أصحابه: ألا يتبع الجماعة؟ فقال: الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك!
وقد حذر ابن مسعود من زمان تختل فيه الموازين فيألف الناس الباطل، ويستغربون الحق، ويعرفون المنكر، وينكرون المعروف. قال: كيف إذا لبستكم فتنة يشب فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، تجري على الناس، يتخذونها سنة، حتى إذا غيرت قيل: غيرت السنة، أو هذا منكر!

ويكفي دليلاً على أن الغرابة ليست دليل الخطأ أن بعض الآيات المحكمة من كتاب الله قد هجر العمل بها، حتى في عهد الصحابة، بحيث أصبح حكمها غريبًا على الناس، مثل قوله تعالى: (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولاً معروفًا) (النساء: 8). وقد ظن بعض العلماء أنها منسوخة لذلك ترك العمل بها. وقوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم. . ) (النور: 58). الآية. وقد قال ابن عباس: “إن الشيطان غلب الناس على هذه الآيات فلم يعملوا بها” (انظر تفسير ابن كثير 3/303 ط الحلبي).

ثامنا -الاختلاف في الفروع لا يؤدي إلى تفرق:
إن الخلاف في المسائل الاجتهادية التي لم يرد فيها نص قاطع الثبوت والدلالة لا يجوز أن يؤدي إلى تفرق أو تنازع، وقد خالف الصحابة بعضهم بعضًا ولم يُحدِث ذلك بينهم فرقة ولا عداوة ولا شحناء.
وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم من يقرأ البسملة ومنهم من لا يقرأ، ومنهم من يجهر بها، ومنهم من لا يجهر بها، وكان منهم من يقنت في الفجر ومنهم من لا يقنت في الفجر، ومنهم من يتوضأ من الحجامة والرعاف والقيء، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك، ومنهم من يتوضأ مما مسته النار، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك، ومنهم من يتوضأ من أكل لحم الإبل، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك. . ومع هذا فكان يصلي بعضهم خلف بعض مثلما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم -رضي الله عنهم- يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وغيرهم، وإن كانوا لا يقرأون البسملة، لا سرًا ولا جهرًا.

وصلى هارون الرشيد إمامًا، وقد احتجم، فصلى الإمام أبو يوسف خلفه، ولم يعد، وكان قد أفتاه الإمام مالك بأنه لا وضوء عليه.
وكان الإمام أحمد يرى الوضوء من الرعاف والحجامة، فقيل له، فإن كان الإمام خرج منه الدم ولم يتوضأ، هل تصلي خلفه؟ قال: كيف لا أصلي خلف مالك وسعيد ابن المسيب؟!
وصلى الشافعي قريبًا من مقبرة أبي حنيفة، فلم يقنت تأدبًا معه، وقال: ربما انحدرنا إلى مذهب أهل العراق.
وفي البزازية – من كتب الحنفية – عن الإمام الثاني أبي يوسف – أنه صلى يوم الجمعة مغتسلاً من الحمام وصلى بالناس وتفرقوا، ثم أخبر بوجود فأرة ميتة في بئر الحمام. فقال: إذن نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا (هذه النقول من (حجة الله البالغة 1/159) لشاه ولي الله الدهلوي).

وما ذلك إلا أن هذه المسائل وأشباهها محتملة مرنة، وكثيرًا ما يكون كلا الوجهين في المسألة مشروعًا، فإن لم يكن فالصواب غير مقطوع به، والخطأ معذور صاحبه بل مأجور. ولهذا كان الأئمة في هذه المواضع يصححون القول، ويثبتون خلافه. يقول أحدهم: هذا أحوط، وهذا هو المختار. وهذا أحب إلى، أو يقول: ما بلغنا إلا ذلك. وهذا كثير في المبسوط، وآثار محمد، وكلام الشافعي، رحمهم الله (المرجع السابق 145).
ورضي الله عن الإمام مالك ما كان أفقهه؛ فقد حكى السيوطي: أن الرشيد شاوره أن يعلق كتاب “الموطأ” في الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه. فقال: لا تفعل فإن أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكل سنة مضت. قال الرشيد: وفقك الله يا أبا عبد الله!! وحكى مثل هذه القصة مع المنصور أيضًا.