العامي الذي ليس أهلا للاجتهاد وليس له علم بالأحكام الشرعية يجب عليه أن يتبع قول مجتهد وأن يأخذ بفتواه، ولكن لا يلزم بالضرورة أن يتبع مذهبا معينا في جميع رخصه وعزائمه، بل له أن يأخذ في مسألة برأي مجتهد معين وفي أخرى بقول آخر، لأن اتباع مذهبا بعينه ليس واجبا إذ لا واجب إلا ما أوجبه الشرع وليس في شرع الله تعالى ما يوجب ذلك، بل ذهب الجمهور إلى جواز تتبُّع رُخَص المذاهب في المسائل المختلفة؛ لأن للمُكلَّف أن يَسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل، بل على من يفتي أن يختار الأيسر لمن يستفتيه فالتيسير روح الشريعة قال سبحانه: (وما جعل عليكم في الدين من حرج)، وقال سبحانه: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، وفي الحديث: (ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما).

يقول فضيلة الشيخ جاد الحق علي جاد الحق –رحمه الله -: ذهب جمهور الأصوليين إلى أن العاميَّ، وهو الذي ليس له أهلية الاجتهاد في الأحكام، وإن كان مُحصِّلًا لبعض العلوم يجب عليه اتباع قول المُجتهد، والأخْذ بفَتْواه استنادًا إلى قوله ـ تعالى ـ: (فَسْئَلُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنتمْ لَا تَعْلَمُونَ).

وهي عامَّة لكل المُخاطبين الذين لم تتوافر لهم وسائل العلم بالأحكام؛ ولأن العامة في زمن الصحابة والتابعين كانوا يَستفتون المُجتهدين منهم، ويتَّبعونهم فيما بيَّنوه لهم مِن الأحكام، وكان المُجتهدون يُبادرون إلى إفتائهم والكشْف لهم عمَّا جهلوا، ولم يُنكروا عليهم استفتاءهم إيَّاهم، فكان ذلك إجماعًا على مشروعية التقليد في الفروع، غير أن العاميَّ في الاستفتاء مُقيَّد باستفتاء مَن عُرِف بالعلْم والعدالة وأهلية النظر فيما يُستفتَى فيه، احتياطًا في أمر الدين.

كما ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجب على العامة التمذْهب بمذهب مجتهد مُعيَّنٍ والتزام جميع عزائمه ورُخَصِهِ، بحيث لا يجوز له الخروج عنه، بل له أن يعمل في مسألةٍ بقول مُجتهد، وفي أخرى بقول مجتهد آخر، وعلى ذلك استقر عمل المُفتينَ في كل عصر مِن زمن الصحابة ومَن بعدهم، وقد اختار ذلك مِن علماء الأصول: الآمدي، وابن الحاجب، والكمال في تحريره، والرافعي وغيره؛ لأن التزام مذهب مُعَيَّن في كل المسائل غير مُلزِم؛ إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يُوجِب الله ولا رسوله على أحد مِن الناس أن يتمذهب بمذهب رجل مُعيَّن من الأئمة فيُقَلِّده في دينه، يأخذ كل ما قاله فيه ويَذَرُ غيره.

وقد قال ابن أمير حاج مِن علماء الأصول: “لا يَصِحُّ للعامي مذهب ولو تمذهب به؛ لأن المذهب إنما يكون لمَن له نوع نظَرٍ واستدلال وبصَر بالمذاهب على حسبه، أو لمَن قرأ كُتبًا ما في فروع ذلك المذهب، وعرف فتاوَى إمامه وأقواله. وأما مَن لم يتأهَّل لذلك البتَّة، بل قال: أنا حنفيٌّ؛ أو شافعي، أو غير ذلك لم يَصِر كذلك بمُجرد القول”.

ومما تقدَّم يُعلم أنه لا يجب تقليد مُجتهد معيِّن، وأن التلفيق بمعنى العمل بقول مُجتهد في مسألة، وبقول آخر في أُخرى لضرورة ولغيرها في العبادات والمُعاملات جائز تخفيفًا ورحمةً بالأمة، بل ذهب الجمهور إلى جواز تتبُّع رُخَص المذاهب في المسائل المختلفة؛ لأن للمُكلَّف أن يَسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل بأن لم يكن قد عمِل بقول مُجتهد آخر في ذات المسألة التي يُريد التقليد فيها.

والخلاصة أن التقليد واجب على غير المُجتهد المُطلق؛ لضرورة العمل، وأنه لا يجب على المُقلد الْتزام مذهب مُعيَّن، وأنه يجوز له العمل بما يُخالف ما عمله على مذهبه مُقلِّدًا غير إمامه، وأن مذهب العامي فتوى مُفتيه المعروف بالعلْم والعدالة، وأن التلفيق بمعنى العمل في كل حادثة بمذهب جائز.