يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله-:

الحق أن العالم المجتهد لا يكون له في المسألة الواحدة قولان مختلفان: أحدهما راجح والآخر مرجوح، وهو يجيز العمل بهما، ولكنه قد يقول القول فيظهر له خطؤه، فيرجع عنه بقول آخر، فلا يبقى الأول قولاً له، وقد يتردد في المسألة فلا يكون له فيها قول، وإن نقل عنه قولان مختلفان كان أحدهما مرجوحًا عنه أو مكذوبًا، فإن وجد المرجح وإلا تساقطا.

فمن سئل عن قول عالم مجتهد في مسألة، وجب عليه أن يرجع إلى كتبه، وينظر قوله فيها ويجيب به، فإن لم يجد كتبه بحث عن ذلك في كتب أقدم أصحابه، وتحرى وميز بين ما يعزونه إليه تصريحًا، وما يطلقون القول فيه أو يذكرونه ترجيحًا أو استنباطًا، فإذا لم يظهر له نقل عنه يطمئن قلبه له فعليه أن يمسك عن الفتوى معزوة إليه ، وكتب الفقهاء المنتسبين إلى المذاهب مملوءة بالأقوال التي لم ينقل عن أئمة تلك المذاهب فيها شيء.

قال ابن القيم:قد اختلطت أقوال الأئمة وفتاويهم بأقوال المنتسبين إليهم واختياراتهم، فليس كل ما في كتبهم ( أي الفقهاء المنتسبين إلى الأئمة ) منصوصًا عن الأئمة، بل كثير منها يخالف نصوصهم، وكثير منهم لا نص لهم فيه، وكثير منه تخرج على فتاويهم، وكثير منه أفتوا به بلفظه أو بمعناه فلا يحل أن يقول: هذا قول فلان ومذهبه إلا أن يعلم يقينًا أنه قوله ومذهبه.

وبناء على هذا تضاربت أقوال أهل المذهب الواحد واختلفت، واحتيج إلى الترجيح بينها، فالراجح والمرجوح إنما هما من كلام أولئك المنتسبين الذين لم يعرفوا قول الإمام قطعًا، ومن كان من أهل الترجيح أفتى بالراجح عنده، وليس لغيره أن يفتي، فإن الناس قد صاروا يفتون بأقوال الجاهلين الذين يتجرءون على التأليف؛ لما وقع فيه المسلمون من الفوضي في العلم والدين بترك الأدلة، ويجعلون أقوال هؤلاء من المذهب، ويقدمونها على ما يعرف من نصوص الكتاب والسنة، بإلصاقها بالأئمة، لا دعاء أولئك الجاهلين أتباعهم وما هم لهم بمتبعين.

وما أفتى به الغزالي وأمثاله مخالفًا للمعروف من مذهب الشافعي، فإنما أفتوا بما ظهر لهم بالدليل أنه الحق لا بمذهب الشافعي، وقد كان بعضهم يلصق مثل هذه الفتاوى بالشافعي، لا على معنى أنها قوله وفتواه، بل عملاً ببعض أصوله كقولهم: قد صح الحديث بهذا، وهو يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقولهم: إن في هذا سعة، وهو يقول: إذا ضاق الأمر اتسع.

والحق أن الاتباع الحقيقي للشافعي وغيره من الأئمة رضي الله عنهم إنما هو تقديم الكتاب والسنة على أقوالهم وأقوال جميع الناس، وقد عمل بهذا كثير من المنتسبين إلى الشافعي وغيره، وإنما صار الناس يلتزمون تقليد الفقيه الواحد في كل ما يعزى إليه بعد القرون الثلاثة التي هي خير القرون بشهادة الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وما نسب كبراء الفقهاء المتقدمين إلى الأئمة إلا لجريهم على أصولهم وطريقتهم في استنباط الأحكام دون اتباع أقوالهم في الفروع، ذكر هذا المعنى ابن الصلاح وأقره عليه النووي بقوله : هذا موافق لما أمرهم به الشافعي ثم المزني في أول مختصره وغيره بقوله (أي المزني):( مع إعلامية نهيه عن تقليده وتقليد غيره) أي نهي الشافعي عن تقليده فيما ينقله من علمه في ذلك المختصر.

وجملة القول: أن من سئل عن حكم الله ورسوله في مسألة بيّنها من كتاب الله وسنة رسوله إن علم، ومن سئل عن رأيه واعتقاده فيها بيّنه بدليله إن استبان له، ومن سئل عن قول إمام بيّنه من كتبه أو نقل صريح عنه يعتد به إن علمه، فإن أفتى بالدليل على أصله صرح بذلك، وإلا أمسك عن الفتوى، وقال: لا أدري.