يرى فضيلة الشيخ الدكتور مصطفى الزرقاء ـ رحمه الله ـ أستاذ الشريعة أن الأفضل والأيسر للفقير والمزكي إخراج القيمة نقودا؛ لأن العلة من فرض الزكاة هو إغناء الفقراء في هذا اليوم فمتى تحقق الإغناء كان ذلك هو الأولي وهذا كلامه في هذه المسألة حيث يقول فيها:
ثَبَتَ عن النَّبِيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ أنه أخرَج وأمَرَ بأن يُخرِجَ مَن كان مقتدرًا زكاةً عن فطره في آخر رمضان ـ بعد صلاة الفجر وقبل صلاة العيد ـ مقدارُها عن نفسه وعن كل فرد تحت ولايته ومئونته صاعٌ من البُرِّ (القمح)، أو نصفُ صاع منه، بحسب اختلاف الرواية، أو صاع من الشعير أو من التمر أو الزبيب أو الأَقِط وذلك معونة للفقراء بمناسبة عيد الفطر عَقِبَ شهر الصيام.
ورُوِيَ أنه ـ عليه الصّلاة والسلام ـ قال: “أغنوهم في هذا اليوم”. ولم يُنْقَلْ في ذلك خلافٌ يعرف في الصدر الأول من الإسلام بين الصَّحابة والتابعين، فكان الناس يخرجون زكاة فطرهم ممّا يتيسَّر لهم من هذه الأموال الغذائية الخمسة سوى ما نُقل من اختلافهم بالنسبة إلى البُرِّ (القمح) بسب اختلاف الرواية فيه: هل يُخرج منه نصفَ صاع أو صاعًا كاملاً كالشَّعير؟
وواضح جدًّا من قول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام: “أغْنُوهم في هذا اليوم”أن المقصودَ الأساسيَّ من هذه العبادة المالية هو إغناء الفقير في هذا اليوم، يوم الفرحة والسرور، وليس المقصود نوعًا أو أنواعًا معينةً بذاتها من الأموال، بدليل أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ جمع بين خمسة أنواع من الأطعمة الميسورة للناس في ذلك الوقت مختلفة الوظائف: فمنها غذاء أساسي لسدِّ الجوع، ومنها ما هو للتحلية والتَّسلية في يوم الفرحة كالزَّبيب.
ثُمَّ ما إِنْ نشأت المذاهب الفقهية، وتكوَّنت حولها الأتباع، حتى بدأ التَّرف العلمي يَذُرُّ قَرْنُه، ويمسك بنقاط فرعيةٍ في الموضوع يَقف عندها، ويتشدَّد فيها، ويربط بها أصل العبادة بتأويل يتمسك به، ولا يرى وجهًا لخلافه، وينسَى حكمة الشارع من الأحكام، وينسَى التمييز بين الوسائل والغايات، بل يعطي الوسائل غير المقصودة بالذات أكثرَ مما يعطي الغايات الشرعية الثابتة من الأهمية !!
فوُجد مَن قال من أهل المذاهب: لا يجوز أن تُخرَج زكاة الفطر إلا من هذه الأرزاق الخمسة عينًا، ولا يصح منه إعطاءُ الفقراء قيمتَها من الدراهم والدنانير.
وحجتهم في ذلك أن هذا هو الذي ورد في السنة النبوية، وأن زكاة الفطر من العبادات، وأن الأصل في العبادات التوقيف وعدم التعليل، فيجب الوقوف عند حدود النص، ولا يجري فيها القياس والاستحسان والاستصلاح. وقد كانت الدراهم والدنانير موجودة وقت التشريع ولم يذكرهما النبي ـ ﷺ ـ ولم يُنقل عن أحد من الصحابة أنه أخرجها بالدراهم أو الدنانير، ولو أنه حَصَل لَنُقِلَ؛ لذلك لا تصحُّ زكاة الفطر في نظرهم إلا من هذه الأعيان.والجواب: عن هذه الحجة واضح للمتأمل: هو أن زكاة الفطر من أصلها هي معقولة المَعنى، مثل زكاة الأموال التي هي مئونة وتكليف مالي اجتماعي لمصلحة الفقراء، الذين يجب أن ينهَض بهم الأغنياء، فلا يكون المجتمع الإسلامي قسمين ولا وسط بينهما: قسمَ الأغنياء المَتخومين، وقسمَ الفُقراء المحرومين.
فتشريع زكاة الفطر وزكاة الأموال معقول المعنى، ويجب عند الاشتباه النظر إلى ما هو أنفع للفقير، أو أيسر على المكلف، وليس مثل عدد ركعات الصلوات توقيفًا محضًّا لا دخل للعقل فيه، بل الفارق بينه وبين عدد الرَّكَعَات فارِق عَظيمٌ .
ألا ترى أن تحديد المقادير في زكاة الفطر بإجماع المذاهب إنما هو تَحديد للحدِّ الأدنى الذي لا يصح أقلُّ منه، ولو زادَ المكلَّف فيه فأعْطَى أكثرَ منه فله فَضل ثَواب، بينما لو زادَ المصلِّي فِي ركعات فَريضة الصلاة لا يجوز له ولا يُقبل منه؟!
على أن زكاة الفِطر قد جاء في الحديث النبوي نفسه تعليلها معها، فقد بيَّن النبي ـ ﷺ ـ حكمتَها وغايتَها وسبب إيجابها حين قال: “أغنوهم في هذا اليوم” وأصل الإغناء يكون بالنقود التي تصلُح لجلب جميع الحاجات من أغذية وغيرها.
وأما أنَّ النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لم يذكر الدنانير والدراهم في زكاة الفطر، ولم يُنقل عن أحد من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أنه أخرجَ بها، فذلك سببه أنها كانت قليلةً في ذلك الوقت لا يَتوافَر منها إلا القليل لدى القليل من الناس، ومعظم أموالِهم التي كانوا يتداوَلونها ويتبادلون بها كأنَّها نقود، قد كانت هذه الأنواع الغذائية التي وردت في حديث زكاة الفطر، وأنواع الأنعام لدى أهل البوادي من الإبل والغَنم والبقر.
والله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يتعبَّدْنا بشيء من أنواع الأموال أو الأغذية على سبيل التعيين والتخصيص، تحت طائلة البُطلان لو قدَّمنا في الواجبات المالية غيرَها، وإنما تعبَّدَنا بالمالية المطلَقة، وبمقاديرَ محدَّدةٍ منها؛ لأنها هي ذات الاعتبار الثابت لدى جميع البشر، وفي جميع الأزمنة. فربح التاجر وخسارته مثلاً لا يرتبطان بنوع معين من أمواله إذا زاد أو نَقَص، وإنما يرتبطان بمجموع ما عنده من أنواع المال ذات القيمة أيًّا كانت.
إن زكاة الأموال ـ وهي أعظم عبادة مالية في تكاليف الإسلام، مع أن الله تعالى قال فيها: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِمْ بِهَا..) (التوبة: 103) ممّا يُشعِر ظاهرُه أنها يجب أن تؤخَذ من عين المال المُرادِ تزكيته ـ يصحُّ بالإجماع أن يخرج الإنسان ما يعادِل قيمتَها من النقود، بل من مال آخرَ لديه؛ لأن مقصودَ الزكاة أن يتخلى المكلَّف عن قدر من ثروتِه محدد إلى الفقراء كيلا يبقَى المجتمع الإسلامي ـ كما سبق بيانه ـ متكوِّنًا من مَتخومين ومحرومين. وأفضل ما يتخلَّى عنه المكلَّف من ثروته لمصلحة الفقراء هو النقودُ، التي يستطيع بها الفقير وفاءَ جميع حاجاته، وتحصيلها بكلِّ يسر، في حين لو اجتمع لديه مجموعة من الأرزاق بأعيانها لا يستطيع أن يستفيدَ منها ما يستفيد من النقود. على أن المزكِّيَ لو أرادَ أن يُخرج زكاتَه من أعيان المال الذي عنده لكان مقبولاً منه؛ لأنه قد يكون هو الأيسر عليه، وأن سياسة الإسلام التيسيرُ على المكلَّف.
يقول الأستاذ الكبير العلامة الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه القيم: “كيف نتعامل مع السنة النبوية” (ص: 138) ما نصه.
“السنة بين اللفظ والرُّوح أو بين الظَّواهر والمقاِصِد “.
إن التمسك بحرفية السنة أحيانًا لا يكون تنفيذًا لرُوح السنة ومَقصودها، بل يكون مُضادًّا لها، وإن كان ظاهره التمسكَ بها.
خذ مثلاً تشدُّدَ الذين يرفضون كل الرّفض، ولا يجيزون إخراج زكاة الفطر بقيمتها نقدًا، كما يُجيزه أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول عمر بن عبد العزيز وغيره من فُقهاء السلف.
وحجة هؤلاء المتشدِّدين: أن النبي ـ ﷺ ـ أوجبها في أصناف معينة من الطعام: التمر والزَّبيب والقمح والشّعير، فعلينا أن نقف عند ما حدَّده رسول الله ـ ﷺ ـ ولا نعارض السنة بالرأي.
ولو تأمَّل هؤلاء الإخوة في الأمر كما ينبغي لوجدوا أنهم خالَفوا النبي ـ ﷺ ـ في الحقيقة، وإن اتبعوه في الظّاهر، أقصد أنهم عُنوا بجِسم السنة، وأهملوا رُوحَها.
فالرسول ـ ﷺ ـ راعَى ظروف البيئة والزمن، فأوجب زكاة الفطر مما في أيدي الناس من الأطعمة، وكان ذلك أيسرَ على المُعطي، وأنفعَ للآخِذ.
فقد كانت النقود عزيزة عند العرب، وخصوصًا أهل البوادي، وكان إخراج الطعام ميسورًا لهم، والمساكينُ محتاجون إليه؛ لهذا فَرَضَ الصّدقة من الميسور لهم.
حتّى إنَّه رَخَّص في إخراج (الأَقِط) ـ وهو اللَّبَن المُجفَّف المنزوع زُبْدُه ـ لمن كان عنده وسهل عليه، مثل أصحاب الإبل والغنم والبقر من أهل البادية.
فإذا تغيَّر الحال، وأصبحت النقود متوافرة، والأطعمة غير متوافرة، أو أصبح الفقير غيرَ محتاج إليها في العيد، بل محتاجًا إلى أشياءَ أخرى لنفسه أو لعياله، كان إخراج القيمة نقدًا هو الأيسرَ على المُعطي، والأنفعَ للآخذ، وكان هذا عملاً بروح التوجيه النبوي، ومقصوده أ.هـ.
لقد آل تشدُّد هؤلاء المتشددين تشدُّدًا في غير محلِّه، حيث يطبق رأيهم، إلى أن تنعكس الآية بالنسبة إلى الفقراء، فيقعوا هم في الخسارة، وينالُهم الضَّرر من جرّاء هذا التّشدُّدِ !!
فقد سمعتُ، ثُمَّ رأيتُ بنفسي أن الرَّجل يأتي عندهم إلى السوق في آخر رمضان، فيشتري القمح والشعير والتمر بمقدار ما عليه من زكاة الفطر، ويأخذه إلى الفقراء القاعدين في زاوية من السوق فيعطيهم إياه، وقد يكونون محترفين، وما إن يذهب حتى يقوم هؤلاء إلى البائع نفسه فيبيعونه ما أخذوا بثمن أدنى ممّا باع به الرجل الذي اشتراه من عنده؛ لأن الفقير الذي أخذ الأرزاق ليس محتاجًا إليها، بل هو محتاج إلى النقود، فتعود النتيجة عليه بالخسارة، ولو دفع المزكِّي قيمتها مباشرة إليه لحصل على نقود أكثر.
إن مَن يدفع قيمة صدقة الفطر من النقود للفقير يكون قد أعطاه عمليًّا أيًّا من الأطعمة الواردة في الحديث، مع زيادة، وهي فرصة اختيار ما يشاء من تلك الأطعمة، أو اختيار سواها من حاجاته التي هي في نظره أهمُّ.
وبذلك يكون معطي القيمة من النقود قد أدَّى الواجب، وأحسن بالزيادة، فكيف يقال: إن هذا غير جائز؟!
هذا، وقد نقل العلامة المرداوي من الحنابلة في كتابه”الإنصاف” أن جواز إخراج القيمة من النقود هو رواية مخرَّجة من الإمام أحمد نفسه.
تناقض هؤلاء المتشددين:
في هذا العصر وَجَد هؤلاء المتشدِّدون أنفسَهم أمام مشكلة بالنسبة إلى القمح والشعير، اللذين هما العنصر الغذائي الرئيسي بين الأنواع الخمسة الواردة في الحديث النبوي.
ذلك أنه في هذا العصر قد تبدَّلت وسائل حياة الناس تبدُّلاً عظيمًا؛ بسبب الابتكارات المذهِلة التي ظهرت خلال هذا القرن، ويسَّرت العسير، وأحدثت الكثير مما لم يكن مُمكنًا في أوائل هذا القرن.
فاليوم في المدن لم يعد أحد يتموَّن القمح أو الشعير، ويطحَن في بيته ويخبِز، بل كل أسرة تشترى خبزَها وبرغلَها جاهزًا من السوق، وتختار من أنواعه المتعددة ما تشاء. وهكذا غابت الرَّحَى السَّوداء المتنقلة من البيوت بعد أن ظلت الرَّحى القرونَ الطِّوالَ من أساسيات كلِّ بيت، ولم يبق لها وجود إلا في حياة البوادي والقبائل الرُّحَّل، فماذا يفعل اليوم الفقير بصاع القمح أو الشعير، وكيف يطحنه ويخبزه؟
هنا تنبه المتشددون في زكاة الفطر، فأفتَوا بإضافة الأُرْزِ إلى الأصناف الخمسة التي وردت في الحديث النبوي، وهنا سقطوا في التناقض!! فإن حُجَّتَهم الوحيدة في الاقتصار على الأصناف الخمسة، كما سبق بيانه، إنما هي أن زكاة الفطر عبادة، وأن العبادات مَبْنِيَةٌ على التَّوقِيف، ولا يجري فيها التعليل والقياس، فكيف ساغ لهم أن يُفْتُوا في هذا العصر بإدخال الأُرْزِ، مع أنه لم يَرِدْ بين الأصناف الواردة في الحديث؟
إن أي حجة أو مسوغ يلتمسونه لإدخال الأرْزِ، هي نفسها حجة لإدخال النقود التي تجلب للفقير الأنواع الخمسة ذاتها والأرْز وغيره أيضًا، مما يكون في بعض البلاد هو النوع الأساسي في غذائهم، ففي بعض بلاد أفريقية اليوم يعتبر المَوز هو خبزهم وأرزهم، ويجفِّفونه ويتموَّنونه، كما يَتَمَوَّنُ غَيْرُهم القَمْحَ والشَّعير.