وضع الجريد على القبر مختلف فيه، والصحيح أنه جائز، وأما الزهور فلا داعي لوضعها لأنها تجف بسرعة وفي وضعها تضييع للمال، والدعاء للميت أنفع من هذا وذاك.
يقول الشيخ عطية صقر-رحمه الله- :
روى البخاري عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ـ ﷺ ـ مَرَّ على قبْرَين فقال: “إنهما لَيُعذَّبانِ ، وما يعذبان في كبير، أما هذا فكان لا يَستَنْزِه من البول، وأما هذا فكان يَمشِي بين الناس بالنميمة” ثم دعا بعَسِيب رطْب فشقَّه باثنين، ثم غَرَس على هذا واحدًا وعلى هذا واحدًا وقال: “لعله يُخفِّف عنهما ما لم يَيْبَسَا. العسيب ـ الجريدة التي لم يَنبُت فيها خُوص، فإن نَبَت فهي السَّعْفة.
وفي حديث مسلم عن جابر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ ﷺ ـ أمره أن يَقطع غصنين من شجرتين كان النبي ـ ﷺ ـ يَستتر بهما عند قضاء حاجته، ثم أمره أن يُلقِىَ الغصنين عن يمينه وعن يساره حيث كان النبي ـ ﷺ ـ جالسًا ولما سأله عن ذلك قال: “إني مررت بقبرين يُعذبان فأحببتُ بشفاعتي أن يَرفَعه عنهما ما دام الغصنان رطْبين” “شرح النووي ج 18 ص 144.
وهناك قصة ثالثة رواها ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي ـ ﷺ ـ مر بقبر فوقف عليه فقال: “ايتُوني بجريدتَين” فجعل إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رِجْلَيْهِ.
وأكثر من قصة وَردَتْ في وضع الجريد على القبر.
والعلماء في مشروعيته فريقان،فريق يقول: إنه خاص بالنبي ـ ﷺ ـ وليس مشروعًا لغيره، وفريق يقول: إنه عام لكل المسلمين.
فالخطّابي في شرح سنن أبي داود “ج 1 ص 42” يَستنكر وضع الجريد على القبر لغير النبي ـ ﷺ ـ والطرطوشي يُعلل ذلك بأنه خاص ببركة يده ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، ويد غيره لا يُجزَم ببركتها، وابن رشيد يَستنتج أن البخاري مع هذا الفريق، وذلك حيث عقب الحديث بقول ابن عمر: إنما يُظِلُّه عمله. وذلك في فسطاط ـ بيت من الشعرأو غيره ـ وضع على قبر عبد الرحمن بن أبي بكر، حيث قال: انزعه يا غلام فإنما يُظِلُّه عمله، والقاضي عياض ينضم إلى هذا الفريق ويقول: إنَّ غرزهما على القبر سببه أمْر مغيَّب. وهو قوله: “لَيُعَذَّبانِ” ، وليس هنالك من الناس من يَعلم الغيب، كما أن بعض العلماء من هذا الفريق، قال: لم يثبت أن أحدًا من الصحابة فعل ذلك إلا بُريدة بن الخصيب الأسلمي، ولو كان جائزًا ما تركوه وتَفَرَّد به واحد منهم.
والفريق المجيزلوضع الجريد على القبر لعامة المسلمين قال: لم يرد ما يدل على خصوصية النبي ـ ﷺ ـ بذلك، فيَبقَى فعله عامًّا له ولأمته على التأسي به فيما لا يُخصُّ به، كما أنه لم يرد ما يدل على أن الصحابة اعترضوا على ابن الخصيب الذي أوْصَى أن يوضع على قبره جريدتان، بل روى الأكثرون أنه أوصَى أن يُوضَع في قبره لا على قبره، وقد فعل هو ذلك تأسيًا بالنبي ـ ﷺ ـ . وعدم نقل أن الصحابة وضعوا الجريد على القبور، لعله لعدم علمهم بأن صاحب القبر يُعذَّب، أو رجاء صلاحه واستغنائه عن ذلك.
وابن حجر رد على تعليل القاضي عياض غرْز الجريدة بأن العذاب مغيب لا يَعلَمه إلا النبي ـ ﷺ ـ فقال لا يلزم من كوننا لا نعلم: أيعذب أم لا، إلا نَتسبَّب له في أمر يُخفف عنه العذاب أنْ لو عُذِّبَ، كما لا يمنع كوننا لا ندري: أرُحِمَ أم لا، ألا ندعو له بالرحمة، وليس في السياق ما يقطع على أنه ـ النبي ـ باشَر الوْضع بيده الكريمة، بل يُحتمل أن يكون أمَرَ بهنَّ وقد تأسَّى بريدة بذلك وهو أولى أن يُتبع من غيره. فتح الباري لابن حجر ـ ج 1 ص 33، ج 2 ص 466.
والحكمة في تخفيف العذاب ما دامت الرطوبة في الغصن قيل:” إنها غير معلومة كالحكمة فى كون عدد الزبانية تسعة عشر، وقيل: إن الغصن يُسبِّح ما دام رطبًا فيَحصُل التخفيف ببركة التسبيح، وعلى هذا فهو مطَّرد في كل فيه رطوبة من الأشجار وغيرها، وقال الخطابي: انتفاع الميت بالجريدة محمول على أن النبي ـ ﷺ ـ دعا لصاحبي القبرين بالتخفيف مدة بقاء النَّداوة، لا أن في الجريدة معنى يَخصُّه، ولا أن في الرطب معنى ليس في اليابس.
هذه هي المسألة بين المجيزين والمانعين، ونرى أنه ليس فيها ما يَدل على المنع، وما دام هناك إيمان بأن النافع والضار هو الله وحدَه، وأن ما نقدمه للميت من دعاء وصدقة وغيرهما هو من باب الأسباب التي تَستَمطِر رحمة الله سبحانه، فلا داعي للإنكار.