يجب أن يستقر فى الأذهان أن مرجع الأحكام الشرعية ومصدرها من حيث الحل والحرمة والجواز والمنع هو كتاب الله تعالى ( القرآن الكريم ) وسنة رسوله صلوات الله وسلامه عليه، وباستقراء آيات القرآن يتضح أنه لم يرد فيه نص يحرم منع الحمل أو الإقلال من النسل، وإنما ورد فى سنة الرسول ﷺ ما يفيد ظاهره المنع، ويظهر ذلك جليا من مطالعة أقوال فقهاء المذاهب وكتب السنة الشريفة فى شأن جواز العزل (يقصد به أن يقذف الرجل ماءه خارج مكان التناسل بزوجته) فقد قال الإمام الغزالى وهو شافعى المذهب فى كتابه إحياء علوم الدين وهو بصدد بيان آداب معاشرة النساء ما موجزه إن العلماء اختلفوا فى إباحة العزل وكراهته على أربعة مذاهب فمنهم من أباح مطلقا بكل حال، ومنهم من حرم العزل بكل حال، وقائل منهم أحل ذلك برضا الزوجة ولا يحل بدون رضاها، وقائل آخر يقول إن العزل مباح فى الإماء دون الحرائر، ثم قال الغزالى إن الصحيح عندنا (يعنى مذهب الشافعى) أن ذلك مباح .
ثم تحدث عن البواعث المشروعة لإباحة العزل، وقال إنها خمسة، وعد منها استبقاء جمال المرأة وحسن سماتها واستبقاء حياتها خوفا من خطر الولادة، والخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد، والتخفف من الحاجة إلى التعب والكسب ، وهذا غير منهى عنه، لأن قلة الحرج معين على الدين، ومن هذا يظهر أن الإمام الغزالى يفرق بين منع حدوث الحمل بمنع التلقيح الذى هو النواة الأولى فى تكوين الجنين وبين الإجهاض، فأباح الأول وجعل من أسبابه الخوف من الضيق بسبب كثرة الأولاد ومن متاعب كسب العيش لهم، بل إن الغزالى أباح العزل محافظة على جمال الزوجة، وفى فقه المذهب الحنفى أن الأصح إباحة العزل باعتباره الوسيلة لمنع الحمل .
واختلف فقهاء المذهب فى أن هذا يستلزم موافقة الزوجة فقط، ومن هذا الرأى فقهاء مذهب الإمام مالك، ويقول الإمام الشوكانى فى نيل الأوطار إن الأمور التى تحمل على العزل الإشفاق على الولد الرضيع خشية الحمل مدة الرضاع والفرار من كثرة العيال، والفرار من حصولهم من الأصل .
ومن هذا العرض الموجز لأقوال الفقهاء يبدو واضحا أن العزل كوسيلة من وسائل منع الحمل جائز، وأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعزلون عن نسائهم فى عهد رسول الله ﷺ، وإذا كان الأمر كذلك، فإن جواز تنظيم النسل أمر لا تأباه نصوص السنة الشريفة، قياسا على جواز العزل فى عهد الرسول صلوات الله عليه وسلامه كما روى الإمام مسلم فى صحيحه كنا نعزل والقرآن ينزل كما رواه البخارى فى صحيحه كذلك .
وإن كان فقهاء الشريعة الإسلامية قد أجازوا العزل كوسيلة لمنع الحمل بموافقة الزوجة، فيجل أن تكون الوسيلة مثلا للعزل دون ضرر، وإذا كان الفقهاء القدامى لم يذكروا وسيلة أخرى فذلك لأن العزل كان هو الطريق المعروف فى وقتهم ومن قبلهم فى عهد الرسول صلوات الله وسلامه عليه .
وليس ثمة ما يمنع قياس مثيله عليه مادام الباعث على العزل هو منع الحمل، فلا ضير من سريان إباحة منع الحمل بكل وسيلة حديثة تمنعه مؤقتا دون تأثير على أصل الصلاحية للإنجاب .
فلا فرق إذن بين العزل باعتباره سببا وبين وضع حائل يمنع وصول ماء الرجل إلى داخل رحم الزوجة، سواء كان هذا الحائل يضعه الرجل أو تضعه المرأة، ولا فرق بين هذا كذلك وبين أى دواء يقطع الطبيب بأنه يمنع الحمل مؤقتا ولا يؤثر فى الإنجاب مستقبلا، ومع هذا فقد تناول بعض الفقهاء طرقا لمنع الحمل غير العزل وأباحوها قياسا على العزل، من ذلك ما قاله بعض فقهاء المذهب الحنفى من أنه يجوز للمرأة أن تسد فم رحمها منعا لوصول الماء إليه لأجل منع الحمل بشرط موافقة الزوج .
ونص فقهاء المذهب الشافعى على إباحة ما يؤخر الحمل مدة - وعلى هذا يباح استعمال الوسائل الحديثة لمنع الحمل مؤقتا أو تأخيره مدة، كاستعمال أقراص منع الحمل، أو استعمال اللولب، أو غير هذا من الوسائل التى يبقى معها الزوجان صالحين للإنجاب ، بل إن هذه الوسائل أولى من العزل، لأن معها يكون الاتصال الجنسى بطريق طبيعى، أما العزل فقد كان فى اللجوء إليه أضرار كثيرة للزوجين أو لأحدهما على الأقل .