يقول فضيلة الشيخ عطية صقر ـ رحمه الله ـ في كتابه أحسن الكلام في الفتوى والأحكام:
في حديثٍ حسَّنه النووي من رواية ابن ماجة وابن حبان يقول النبي ـ ﷺ ـ ” رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه”، وفي رواية لأبي داود وابن ماجة ” لا طلاق في إغلاق” أي إكراه، كما فسَّره علماء الغريب، وروى سعيد بن منصور وأبو عبيد القاسم بن سلام أن رجلًا على عهد عمر تدلَّى بحبل ليَجني عسلاً من خلية نحل، فهدَّدته زوجته بقطع الحَبل ليسقط ميتًا إن لم يُطلِّقها، فطلَّقها لإنقاذ حياته، فلم يجعلْه عمر طلاقًا؛ لأنه مُكْرَه. بذلك قال جمهور الفقهاء خِلافًا لأبي حنيفة وأصحابه، فالله قد عفا عن النُّطْق بكلمة الكفر ما دام القلب مطمئنًّا بالإيمان، والطلاق أخَف من الكُفر فالعفو عند الإكراه عليه أوْلى.
غير أن للإكراه شروطًا منها أن يكون ظُلمًا وبعقوبة عاجلة لا مُستقبَلة، وأن يكون المُكرِه غالبًا قادرًا على تنفيذ التَّهديد، بولاية أو تغلُّب أو هجوم مثلًا، وأن يكون المُكْرَه عاجزًا عن دفع الإكراه بنحْوِ هَرَبٍ أو مقاومة أو استغاثة، وأن يَغْلِبَ على ظنه وقوع ما هدَّد به إن لم يُطَلِّق، وألا يظْهر منه ما يدل على اختياره كأن أُكْره على التطليق منْجزًا فطلق معلقًا. ثم قال الفقهاء: إن المَعفوَّ عنه في الإكراه هو التلفُّظ فقط بالطلاق فلو نواه بقلبه مع التلفظ وقع؛ لأن ذلك يدل على اختياره، وقالوا: إن أسلوب الإكراه يختلف بالأشخاص وما هدَّد به، فهو يتحقَّق بالتَّهديد بكل ما يُؤْثر العاقل أن يُطلق ولا يقع ما هدد به، كالقتل، والضرب الشديد، والحبس الطويل، وإتلاف المال الكثير، ومِثْلُه الضرْب اليسير والحبس القصير عند أهل المروءات، وإتلاف المال اليسير عند الفقير، وكذلك تهديد الوجيه بشَتْمِه والتَّشهير به أمام الملأ، كما قال الشافعية.
هذا وليس من الإكراه المعفوِّ عنه تهديد الوالد لولده بعدم الرِّضا عنه إن لم يُطلِّق امرأته أو بحرمانه من الميراث مثلًا، وليس من برِّ الوالدين طاعتُهما في ذلك إذا كان لأغراض شخصية لا تمس الخلُق والدِّين، فلو طلَّق وقع الطلاق، وننصح الوالدَيْن بالتخلِّي عن مثل هذه الأساليب التي تُخَرِّب البيوت فأبغض الحلال إلى الله الطلاق، وقد صح أن النبي ـ ﷺ ـ أمر عبد الله بن عمر بطاعة أبيه في تطليق زوجته، كما رواه أبو داود والتِّرمذي والنسائي وابن ماجة، وقال الترمذي: حسن صحيح. لكن رُفعت مثل هذه القضية إلى الإمام أحمد بن حنبل فلم يأمر الولد بطلاق زوجته إرضاءً لوالده قائلاً، ليس كلُّ الناس كعمر؛ لأن عمر كان ينظر إلى المصلحة الدِّينية، أما الدوافع الشخصية والدُّنيوية فلا تَلْزم الاستجابة لها ما دامت الناحية الدِّينية موفورة.