الزواج سنة من سنن الله تعالى في الكون، كما أنه من فعل النبي ﷺ، وهو فطرة من فطر الناس، يسعى إليه الإنسان السوي، ليقيم حياة طيبة، والحكم الشرعي للزواج يختلف من شخص لآخر، وهو يأخذ الأحكام الخمسة الوجوب والندب والإباحة والكراهة والتحريم باختلاف الأشخاص والأحوال والزمان والمكان.
يقول الدكتور أحمد عبدالكريم نجيب مدرس الشريعة بكليّة الدراسات الإسلاميّة في سراييفو، و الأكاديميّة الإسلاميّة في زينتسا .
لا شك أن النكاح أمرٌ مشروع رغّبَ فيه الكتاب و السنّة ، قال تعالى : ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ) ( النساء : 3 ) .
و قال سبحانه ( وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( النور : 32 )
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة : (هَذَا أَمْر بِالتَّزْوِيجِ، وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء إِلَى وُجُوبه عَلَى كُلّ مَنْ قَدرَ عَلَيْهِ … و الأيَامَى جَمْع أَيِّم وَيُقَال ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي لا زَوْج لَهَا وَلِلرَّجُلِ الَّذِي لا زَوْجَة لَهُ وَسَوَاء كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ ثُمَّ فَارَقَ أَوْ لَمْ يَتَزَوَّج وَاحِد مِنْهُمَا حَكَاهُ الْجَوْهَرِيّ عَنْ أَهْل اللُّغَة ).
وروى الشيخان وأصحاب السنن وأحمد عن عَبْد اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قال : كُنَّا مَعَ النَّبِي ﷺ شَبَاباً لاَ نَجِدُ شَيْئاً، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّه ﷺ : « يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَة فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» .
و روى الشيخان و الترمذي و النسائي و أحمد عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضى الله عنه أن رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ : « أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي » .
وروى الحاكم و غيره بلفظ (من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني )، و ليس فيه ترغيبٌ مطلقٌ في النكاح، و لكنّه يدل على وجوب تحرّي ذات الدين و الصلاح عند البحث عن زوجة .
و نصيحتنا للشباب المسلم في العصر الحاضر أن لا يدّخروا وسعاً في السعي إلى الزواج، والاقتران بذوي الدين و الخلُق الحسن، عملاً بوصيّة النبيّ صلى الله عليه و سلّم في الحديث المتقدّم، و فراراً من الفتن، و إصلاحاً للفرد والمجتمع .
و أخصّ الفتيات نُصحاً بأن لا يردُدنَ متقدّماً لخطبتهنّ إذا كان مرضيّاً في دينه و خُلُقه، لأنّ في ردّ الأخيار فتحٌ لباب الفتنة على مصراعيه، و ذريعة لشيوع الفساد و تفشي الرذائل و الفواحش، فقد أخرج أحمد و ابن ماجة و الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ».
و ليس معنى هذا أنَّ الزواج فرض عينٍ على كلّ مسلم، بل حكمه يختلف باختلاف حال من عَرَض له، فقد يكون واجباً على من خشي على نفسه الفتنة، و قد يكون حراماً على المرأة في عدّتها، و قد يكون بين هذا و ذاك بحسب حال المُقدِم عليه.
قال ابن قدامة الحنبلي رحمه الله في المغني : (من يخاف على نفسه الوقوع في محظور إن ترك النكاح، فهذا يجب عليه النكاح في قول عامة الفقهاء، لأنه يلزمه إعفاف نفسه، و صونها عن الحرام، و طريقُهُ النكاح … و يستحب لمن له شهوة يأمن معها الوقوع في محظور، فهذا الاشتغال له به أولى من التخلي لنوافل العبادة، و هو قول أصحاب الرأي . و هو ظاهر قول الصحابة رضي الله عنهم، و فعلهم … وساق بعض الآثار التي أوردنا طرفاً منها ) .
و قال الإمام القرطبي في تفسيره : (المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه و دينه من العزوبة لا يُختلف في وجوب التزويج عليه ) .
و قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله : (إن احتاج الإنسان إلى النكاح و خشي العنت بتركه قدّمه على الحج الواجب و إن لم يخف قدم الحج ) .
و قال ابن رشد : (فأما النكاح فإنه في الجملة مرغب فيه و مندوب إليه … و أما من احتاج إلى النكاح و لم يقدر على الصبر دون النساء، و لا كان عنده مايتسرى به و خشي على نفسه العَنَت إن لم يتزوج، فالنكاح عليه واجب ) .انتهى
و الذي يظهر لي ممّا سبق هو أنّ الأصل في النكاح الاستحباب، و هذا الحكم للرجل و المرأة على حدٍ سواء، هذا ما لم يُخشَ مع العزوبة من الوقوع في الحرام، فإن خُشيَ ذلك تعيّن الزواج على المقتدر، لأنّ سدّ الذرائع المفضية إلى ما حرّم الله واجب .