الراجح لدى جمهور الفقهاء أن الوضوء شرع بمكة مع اختلافهم حول كونه فريضة أم سنة، ثم فرض في المدينة بآية سورة المائدة، أو فرض بمكة عن طريق السنة ثم جاء القرآن مؤكدا على السنة في المدينة.
يقول فضيلة الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر ـ رحمه الله ـ في كتابه أحسن الكلام في الفتوى والأحكام:
فقد شُرِعَ الوضوء للصلاة بالآية السادسة من سُورة المائدة،وهي قول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )المائدة 6
وأما الآية الثالثة والأربعون من سورة النساء وهي قول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ) النساء 43
فهي لمشروعية الغُسل من الجَنَابَة، وكلتا الآيتين نزلتا بالمدينة، والصلاة فُرِضَتْ بمكة، فهل كان الرسول يصلِّيها بدون وضوء؟
ابن حزم يقول:الوضوء لم يُشرع إلا بالمدينة، بناء على آية المائدة، وقال العلماء: إنه كان مشروعًا بمكة، مع الخلاف في كونه واجبًا أو مندوبًا، والجمهور على وجوبه، وجزم ابن الجهم المالكي بأنه كان مندوبًا.
ونقل ابن عبد البر اتفاق أهل السِّيَر على أن غُسل الجنابة فُرِضَ على النبي ـ ﷺ ـ وهو بمكة كما فُرِضَتْ الصلاة بمكة، وأنه لم يُصَلِّ قط إلا بوضوء، وهذا مما لا يَجْهَله عالم بالأخبار.
ومما يدُل على أن الوضوء كان مشروعًا بمكة ما رواه الحاكم في المُسْتَدرك عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن فاطمة بنت النبي ـ ﷺ ـ دخلت عليه وهي تبكي؛ لأن الملأ من قريش تعاهدوا على قتله، فقال: “ائتوني بوضوء…” أي بماء أتوضأ به.
ومن الأدلة أيضًا ما رواه أحمد والطبراني أن جبريل ـ عليه السلام ـ علَّم النبي ـ ﷺ ـ الوضوء عند نزوله عليه بالوحي (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (سورة العلق: 1).
وقيل بعد فترة الوحي ونزول جبريل بقوله: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) التي فيها (وَثِيابَك فَطَهِّرْ) (سورة المدثر : 4).
فالخُلاصة أن الوضوء كان مشروعًا بمكة، والتشريع كما يكون بالقرآن يكون بالسُّنَّة.
ولما نزلت آية المائدة تأمر بالوضوء للصلاة اختلف العلماء في مَدى هذا الأمر فقيل للوجوب عند كل صلاة حتى لو لم يُنْتَقض الوضوء فلا تصح صلاته بوضوء واحدٍ، وقيل للوجوب إذا انتقض، وللنَّدب إذا لم ينتقض حيث يُسَنُّ تجديد الوضوء لكلِّ صلاة.
وكان من عادة النبي ـ ﷺ ـ تجديد الوضوء لكلِّ صلاة، ولكن خالف هذه العادة يوم الفتح فصلَّى الصلوات الخَمْس بوضوء واحد، ولمَّا سأله عمر عن ذلك قال “تعمدته يا عمر” وذلك حتى لا يظن الناس أنه واجب فيشُقُّ عليهم، وفعل مثل ذلك في خيبر، والنصوص المُثبِتة لذلك يُرجع إليها في فتح الباري لابن حجر:كتاب الوضوء، وفي كتاب المواهب اللَّدنية بشرح الزرقاني (ج 7 ص 246، 247).