يرى الأستاذ الدكتور محمد عمارة أن العلة في تكسير الأصنام هي أن تعبد من دون الله عز وجل أما إذا انتفت هذه العلة فتبقى كجزء من تراث الأمة وتاريجها ولايجوز تحطيمها بحال.

ويقول الأستاذ الدكتور محمد عمارة:
الموقف الشرعي للقضية ينبع من القرآن الكريم. وللقرآن الكريم مواقف متعددة إزاء التماثيل.

فعلى سبيل المثال في عصر سيدنا سليمان عليه السلام جعل القرآن الكريم عمل التماثيل نعمة من نعم الله على سيدنا سليمان، فقد جاء في سورة سبأ وفي سياق تعداد نعم الله سبحانه وتعالى على سيدنا سليمان قول الله سبحانه: “ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير* يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرًا وقليل من عبادي الشكور”

في هذه الآية جاء ذكر التماثيل وعمل التماثيل في سياق تعداد النعم التي أنعم الله بها على سيدنا سليمان، ولم تكن تلك التماثيل يومها معبودة من دون الله، ولم تكن خطرًا على عقيدة التوحيد، ولم تكن تمثل شائبة تشوب نقاء عقيدة التوحيد.

أما في عصر سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام وعندما كانت التماثيل أصنامًا تُعبد من دون الله فإن الموقف القرآني تجسّد في تحطيم سيدنا إبراهيم لهذه التماثيل؛ إزالة للشرك وتنقية للتوحيد ومنعًا لأية شوائب يمكن أن تغري الإنسان بعبادة غير الله.

ونفس الموقف تكرر عندما كانت الوثنية العربية الجاهلية تتخذ الأصنام والتماثيل معبودات، يتقربون بها إلى الله زلفًا، ويجعلونها وسائط بين الإنسان وخالقه؛ لذلك كان تشريع القرآن الكريم لنبينا صلى الله عليه وسلم هو إزالة وتدمير وتحطيم كل هذه الأصنام المعبودة.

وقد نهى القرآن الكريم عن عبادة هذه الأصنام، وسفّه أحلام وعقول الذين يتخذونها معبودات من دون الله، وجسد هذا الموقف القرآني وطبقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم؛ حيث أزالوا جميع ما كان في شبه الجزيرة العربية من أصنام، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة لم يدخل الكعبة إلا بعد تطهيرها من الأصنام والصور المجسدة، وكانت الأصنام تعلوها حيث جعلها المشركون متحفًا لكل ألوان وأنواع الأصنام، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة يحطمونها وهم يتلون قول الله سبحانه: “جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا”.

إذن الموقف القرآني والتطبيقات النبوية، سواء على عهد سيدنا سليمان أو قبله؛ على عهد سيدنا إبراهيم أو في عصر ختم النبوة.. الموقف إزاء التماثيل ليس واحدًا، إنما يتعلق بالمقاصد إزاء هذه التماثيل: هل هي مجرد زينة تكون من نعم الله كما كانت لسليمان، أم أنها وسائط في العبادة، وشبهات يجب تحطيمها، كما حدث في ملة أبي الأنبياء إبراهيم، وملة وشريعة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.

ولقد سار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا النهج الذي لا يعمِّم؛ ففي الوقت الذي أزالوا فيه التماثيل المعبودة وحطموها، تركوا التماثيل في البلاد التي فتحوها عندما لم تكن معبودة من دون الله.. صنع ذلك في مصر فاتحها عمرو بن العاص، ومعه كوكبة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فهؤلاء الصحابة الذين فتحوا مصر والذين سبق وحطموا التماثيل المعبودة في شبه الجزيرة العربية هم الذين تركوا التماثيل في مصر؛ لأنها لم تكن معبودة، ولم يكن نصارى مصر يعبدونها، ولم تكن خطرًا على عقيدة الجيش المسلم الفاتح لمصر.

ونفس الشيء حدث عندما فتح المسلمون بلاد المشرق وذهبوا إلى أفغانستان، كان ذلك في عصر الخلافة الراشدة على عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه.. الصحابة الذين فتحوا أفغانستان رأوا فيها هذه التماثيل البوذية التي كانت موجودة قبل ذلك التاريخ، وتركوها وبقيت حتى عصرنا الراهن.

وحدث ذلك أيضًا عندما فتح المسلمون الهند، وتركوا فيها تماثيل بوذا، وعندما فتح المسلمون جزيرة صقلية وتركوا فيها الآثار الرومانية، وبقيت هذه التماثيل والآثار الرومانية حتى عصرنا الراهن، وزارها في أوائل القرن العشرين 1903 الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وكتب عدة مقالات في مجلة المنار وتحدث فيها عن هذه التماثيل وكيف أنها ليست معبودة من دون الله، ولا تمثل خطرًا على عقيدة التوحيد، وإنما هي جزء من ذاكرة التاريخ.

وكتب الإمام محمد عبده هذه المقالات معلقًا على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون”، وعلق فقال: إن الحديث جاء في أيام الوثنية وكانت الصور تُتخذ في ذلك العهد لسببين: الأول اللهو، والثاني التبرّك بمثال من ترسم صورته من الصالحين، والأمر الأول مما يبغضه الدين، والثاني مما جاء الإسلام لمحوه، والمصوَّر في الحالين شاغل عن الله، أو ممهد للإشراك به، فإذا زال العارضان وقُصدت الفائدة، كان تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر والمصنوعات، وقد صُنع ذلك في حواشي المصاحف، وأوائل السور، ولم يمنعه أحد من العلماء، مع أن فائدة نقش المصاحف موضوع النزاع، أما فائدة السور فمما لا نزاع فيه”.

إن الشريعة الإسلامية ـ وهذا أيضًا كلام الإمام محمد عبده ـ أبعد من أن تحرّم وسيلة من أفضل وسائل العلم، بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين، لا من جهة العقيدة، ولا من جهة العمل، وليس هناك ما يمنع المسلمين من الجمع بين عقيدة التوحيد، ورسم صورة الإنسان والحيوان لتحقيق المعاني العلمية وتمثيل الصور الذهنية.

أيضًا هناك من الأدلة الشرعية تطبيقات عهد النبوة؛ فكما أزال الصحابة الصور والتماثيل عندما تكون معبودة من دون الله، استخدموها واستخدموا المرسوم فيها من صور الأصنام والتماثيل عندما لم تكن هناك مظنة لتعظيمها. فالسيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تروي في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده، فتقول: “قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد اشتريت نمطًا” أي نسيجًا من صوف، أو بساطا فيه صورة، ومعنى الصورة في الحديث النبوي وفي العهد النبوي صورة الصنم المعبود؛ لأن الذين كانوا ينسجون النسيج ويصدّرونه إلى شبه الجزيرة العربية حينئذ كانوا يعلمون أن العرب أهل وثنية وعبدة أصنام، وكانوا يرسمون صور الأصنام على الأقمشة كي تروج في تلك البيئة.

فالسيدة عائشة اشترت قماشًا فيه صورة، وعلقت هذا القماش على كوة أي على نافذة في منزل النبوة، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم كره هذا الذي صنعته عائشة.

وفي ذات الحديث برواية أنس بن مالك تعليل لسبب كراهة رسول الله صلى الله عليه وسلم تعليق هذا القماش وما فيه من الصور، يقول أنس: “كان ستر لعائشة قد سترت به جانب بيتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أميطي، أي أزيحي عنا قِرَامَك هذا (ستر رقيق فيه ألوان ونقوش)، فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي”، أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما وقف في المنزل يصلي رأى الصور أي صور الأصنام على هذا الستر المعلق أمامه، فكره ذلك لأن هذه الصور تخايله وهو يصلي، وطلب من السيدة عائشة أن تزيح هذا الستار، فأخذت السيدة عائشة هذا القماش وقطّعته وجعلته وسائد فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستخدم هذه الوسائد ويتكئ عليها وفيها رسم الصور أي التماثيل، وهي في هذه الحالة ممتهنة أي أن الإنسان لا يعظمها.. أي أن علة التحريم قد انتفت.

وهناك حديث آخر رواه الإمام أحمد يقول: إن الصحابي المسور بن مخرمة دخل على عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يعوده في مرضه، فرأى عليه ثوب إستبرق وبين يديه كانون عليه تماثيل، فقال له: يا ابن عباس ما هذا الثوب الذي عليك؟ قال: ما هو؟ قال: إستبرق، قال: ما علمت به، وما أظن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه إلا للتجبر والتكبر ولسنا بحمد الله كذلك، قال: فما هو الكانون الذي عليه الصور، قال ابن عباس: ألا ترى كيف أحرقناها بالنار”، إذن نحن أمام هذا الحديث نجد الأحكام معللة بعلل، ونجدها تدور مع عللها حِلاً وحرمة.

والكانون أي الموقد الذي قوائمه صور أي تماثيل، أحل ابن عباس استخدامه واقتناءه في بيته لأنه يوقد فيه النار، فهو لا يعظم هذه التماثيل وإنما هو يمتهنها ويحتقرها ويجعلها موقدًا للنار ومكانًا للرماد.

إذن هذه التماثيل حطمها الصحابة عندما كانت شبهة للعبادة، واستخدموها عندما لم تكن شبهة للعبادة.

أيضًا في كتب الأصول، وعند واحد من أئمة علم الأصول وفقهاء المذهب المالكي، عند الإمام أحمد بن إدريس القرافي وهو من تلاميذ العز بن عبد السلام وهو من علماء القرن السابع الهجري. يحكي الكرافي في كتابه “شرح المحصور” حل اقتناء التماثيل التي تُستخدم للزينة وليست للعبادة، ليس هذا فحسب بل إنه قام بصنع هذه التماثيل، أي أنه مارس النحت والتشكيل.

يقول القرافي: بلغني أن الملك الكامل وُضع له شمعدان، وهو عمود طويل من نحاس، له مركز يوضع عليه الشمع للإنارة، كلما مضى من الليل ساعة انفتح باب منه، وخرج منه شخص يقف في خدمة الملك، فإذا انقضت عشر ساعات أي حان وقت الفجر طلع الشخص على أعلى الشمعدان وإصبعه في أذنه وقال: صبّح الله السلطان بالسعادة، فيعلم السلطان أن الفجر طلع.

نحن هنا أمام صنعة شمعدان فيه تماثيل وأشخاص وهذه التماثيل تتحرك في أوقات محددة فتمثل ساعة يُضبط بها وبحركتها الوقت، بل إن التمثال يتحرك عند وقت الفجر فيضع إصبعه على أذنه، كأنه يؤذن ويقول بالصوت للسلطان صبح الله السلطان بالسعادة.

وبعد أن يحكي القرافي هذا الذي صُنع للملك الكامل يقول: وعملت أنا هذا الشمعدان، وزدت فيه أن الشمعة يتغير لونها في كل ساعة: وأصبح الشمعدان أسدا تتحول عيناه من السواد الشديد إلى البياض الشديد إلى الحمرة الشديدة، وفي كل ساعة لها لون. غير أن القرافي عجز عن صنعة الكلام للشخص الذي يصعد على أعلى الشمعدان وإصبعه في أذنه يشير إلى الأذان.

أي أن القرافي صنع شمعدانًا ونحت تماثيل لأشخاص حية، وجعل منهم ساعة تحدد الزمان وتشير إلى وقت الأذان، كل هذه الإشارات تفصح عن أن حكم الإسلام في صناعة التماثيل هو حكم معلل بعلل، يدور مع هذه العلل حيث دارت بالحل والحرمة.

ولقد أجمع العلماء على أن التماثيل إذا أدت إلى منفعة فإنها تكون حلالاً، واستدلوا بالحديث الصحيح الذي جاء فيه عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها كانت تلعب وهي زوج لرسول الله صلى الله عليه وسلم بلعبً منها تماثيل خيل، أي تماثيل لأحياء، وكانت تُسمّى خيل سليمان، وكانت لها عرائس وتماثيل ودمى تلعب بها، وعندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تلعب مع صواحبها بهذه التماثيل لم يغضب ولم ينه عن ذلك، بل عندما خجلت صواحبها منه قربهن إليها ثانية كي يلعبن معها.

والسيدة عائشة تروي الحديث فتقول: “دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا وأنا ألعب بالبنات أي تماثيل البنات، فقال: ما هذا يا عائشة؟ قلت: خيل سليمان، فضحك”.

ويعلل العلماء –كما جاء في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي- ذلك بدور لعب البنات بهذه التماثيل في تربيتهن؛ حيث يتدربن على تربية أولادهن منذ الصغر بالألفة التي تنشأ بينهن وبين دمى العرائس والأطفال.

هذا هو موقف الإسلام قرآنًا وسنة وتطبيقات لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من التماثيل والصور المجسدة: يحرمونها ويحطمونها عندما تكون مصدر شرك أو شبهة على نقاء عقيدة التوحيد، ويبيحونها إذا كانت لمجرد الزينة أو أثرًا من آثار التاريخ، يفصح عن وقائع التاريخ ويتحول إلى جزء من ذاكرة الذين يرون هذه التماثيل.

هناك أمر آخر هو أن المسلمين الذين يدعون الناس إلى التوحيد وإلى أرقى مستويات التنزيه للذات الإلهية مطالبون بأن يتركوا غيرهم وما يعبدون؛ فالمسلمون ليسوا مطالبين بتحطيم المعبودات الزائفة التي تُعبد من دون الله، بل إنهم منهيون عن سب هذه المعبودات الزائفة؛ وذلك حتى لا يؤدي هذا السب إلى ردود أفعال يسب فيها الوثنيون والمشركون الله سبحانه وتعالى.

وفي القرآن الكريم في سورة الأنعام في سياق الحديث عن التوحيد يقول الله سبحانه وتعالى: “اتبع ما يوحى إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين* ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظًا وما أنت عليهم بوكيل”، في هذه الآية يطلب المولى منا أن نعبده وحده لا شريك له، وفي ذات الوقت يطلب منا ألا نكون وكلاء وحفاظًا ومسيطرين على الذين أشركوا، ثم تقول الآية التالية: “ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون”، إذن فنحن مطالبون أن نوّحد الله وألا نحطم معبودات المشركين، بل وألا نسبّ هذه المعبودات الزائفة؛ كي لا يؤدي ذلك إلى سب المشركين لله سبحانه وتعالى، كما حدث أخيرًا؛ فعندما بدأ تحطيم تماثيل بوذا في أفغانستان أحرق الهندوس القرآن الكريم.