التحكيم هو اتفاق بين طرفين أو أكثر على إخراج نزاع أو عدد من النزاعات من اختصاص القضاء العادي وأن يعهد به إلى هيئة تتكون من محكم أو أكثر للفصل فيه بقضاء ملزم. والمنازعات التي يجوز فيها الصلح يجوز فيها التحكيم، واتفق فقهاء المسلمين على جواز التحكيم في الحقوق التي يملك الأفراد التصرف فيها، ولا يجوز التحكيم في ما هو حق خالص لله تعالى كالحدود، كما لا يجوز التحكيم في ما اجتمع فيه حق الله وحق العبد كالقصاص.
والتحكيم بين الناس في الخصومات والخلافات مشروع بكتاب الله تعالى ، وبسنة رسوله الكريم ﷺ , قال تعالى : ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ) النساء/ 35 .
وعلى هذا فلا حرج في توقيع غرامات مالية على أحد أطراف النزاع من خلال مجالس التحكيم العرفية، فهي نوع من الردع لكل من تسول له نفسه بالظلم والعدوان، ولصاحب الحق المحكوم له قبول هذا المال، أو تركه عن طيب نفس وصدق الله العظيم إذ يقول (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) وقوله تعالى (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم).
يقول فضيلة الدكتور أحمد طه ريان-أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر-:
يقول الله تعالى مبيناً خطورة إيذاء الأقارب والاعتداء على ذوي الأرحام والجزاء الرادع لمن ينتهك هذه الحرمات: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم)، أي أن عقوبتهم مزدوجة عقوبة في الدنيا بأن تصم آذانهم عن دعوة الخير والحق فلا يسمعون وعظاً ولا يستجيبون لدعاة الفلاح والرشاد والهداية. كما تعمى أبصارهم عن الأوامر والنواهي، والمراد أنهم لا يستفيدون مما يصل إلى عقولهم وأبصارهم؛ لأن الله تعالى عاقبهم بسلب الاستفادة بها قال تعالى: (وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ).
وأما العقوبة في الآخرة فهي طردهم من رحمته تعالى وإبعادهم عن رضوانه، وفي هذا خسارة الدنيا والآخرة.
أما الحكم بغرامة مالية مقابل جحد حق أو اعتداء ظالم فقد ورد في ذلك الحديث الشريف؛ حيث عاقب المصطفى عليه الصلاة والسلام مانعي الزكاة بأخذ جزء من أموالهم عقوبة لهم على جحدهم للفريضة الواجبة عليهم، فقال عليه الصلاة والسلام في الزكاة مع أخذ جزء من مال جاحدها: “إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا”، وبهذا قال عدد من الفقهاء، فأجازوا العقوبة بأخذ جزء من المال تأديباً على بعض الجرائم، كما أجازوا إتلاف الأموال التي شابها صاحبها بالغش جزاء له على غشه حتى لا يعود إليه مرة أخرى.
لذلك نقول للمسلم الذي حكمت له لجنة التحكيم بالغرامة من حقك الحصول على التعويض مقابل الإيذاء والاعتداء الذي وقع عليك من ذوي قرابتك، لعل هذا الصنيع يكون رادعاً لهم فلا يتكرر منهم الاعتداء عليك مرة أخرى.
وإني أحيي أعضاء هذه المجالس، فهم أعرف بالمتخاصمين وبحقيقة الخصومة فيتوفر على الجميع الوقت والجهد والنفقات، بالإضافة إلى تصفية القلوب، وإعادة الحب والوئام إلى الأقارب. أ.هـ
جاء في كتاب أحكام القرآن لابن العربي المالكي:
قال مالك: إذا حكم رجل رجلا فحكمه ماض، وإن رفع إلى قاض أمضاه إلا أن يكون جورا بينا.
وقال سحنون: يمضيه إن رآه.
قال ابن العربي: وذلك في الأموال والحقوق التي تختص بالطالب، فأما الحدود فلا يحكم فيها إلا السلطان.
والضابط أن كل حق اختص به الخصمان جاز التحكيم فيه ونفذ تحكيم المحكم به.