تجلس المرأة – إذا رأت الحيض في رمضان- بائسة آسفة على ما عساه يفوتها من الفضل، ويتفلت منها من الخير، وتود لو أن كل عرق من عروقها ينزف ما فيه من دم على أن لا ترى دم الحيض رجاء أن تلحق بقافلة الصالحين الذي اختطت طريقها وأبت التوقف حتى تحط رحالها في جنات الله تعالى.
وإننا نقول لكل امرأة أتاها الحيض في رمضان…. لا تبتئسي.
لا تبتئسي…. فهذا شيء قد كتبه الله على بنات آدم، وهذا ما أخبر به النبي ﷺ السيدة عائشة يوم ضربها الحيض وهي في الحج(دخل عليَّ رسول الله ﷺ بِسَرِفَ وأنا أبكي، فقال: (ما لك أنَفِسْتِ). قلت: نعم، قال: (هذا أمر كتبه الله على بنات آدم) رواه البخاري وغيره.
لا تبتئسي….. ففي صحيح البخاري من حديث أبي موسى أن رسول الله ﷺ قال : (إذا مرض العبد أو سافر كتب الله تعالى له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحا مقيما). والحيض مرض عارض يمنع صاحبته مما كانت تأتيه وهي صحيحة، فإذا أتاها وكان لها رصيد من العبادة، وعادة من الطاعة لم يمنعها من مواصلتها إلا الحيض فإن لها من الأجر مثل ما كانت تعمل وهي صحيحة.
قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث:- هو في حق من كان يعمل طاعة فمنع منها وكانت نيته لولا المانع أن يدوم عليها كما ورد ذلك صريحا عند أبي داود ” كأصلح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم ” ووقع أيضا في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا ” إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مرض قيل للملك الموكل به اكتب له مثل عمله إذا كان طليقا حتى أطلقه أو أكفته إلى – أي حتى يشفى أو يموت-” أخرجه عبد الرزاق وأحمد وصححه الحاكم.
ولأحمد من حديث أنس رفعه ” إذا ابتلى الله العبد المسلم ببلاء في جسده قال الله: اكتب له صالح عمله الذي كان يعمله، فإن شفاه غسله وطهره، وإن قبضه غفر له ورحمه ” . انتهى كلام الحافظ.
لا تبتئسي …. فلقد أعلن الرسول ﷺ على رؤوس أصحابه وهم في الجهاد أن من كان مشتاقا للجهاد صادق النية في ذلك ولم يمنعه سوى العذر فإن له مثل أجر من خرج للجهاد دون فرق، فروى البخاري من حديث أنس أن رسول الله ﷺ قال : ( إن بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا، ولا سلكتم طريقا إلا شركوكم في الأجر، حبسهم العذر).
وإذا أكلت أو شربت بينما يصوم الناس من حولك فلا تبتئسي فإن الله هو الذي أمرك بالفطر كما أمر غيرك بالصيام، والله عز وجل يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، والله عز وجل يأجر العبد ويثيبه لمجرد أنه امتثل أمره عزيمة كان أو رخصة، ولهذا المعنى صح أن الله يصلي على المتسحرين مع أنهم يأكلون
لا تبتئسي ….. فلا يزال أمامك من الخير الكثير، ومن ذلك ذكر الله عز وجل، ففي صحيح الترغيب والترهيب قوله ﷺ (من هاله الليل أن يكابده، أو بخل بالمال أن ينفقه، أو جبن عن العدو أن يقاتله، فليكثر من (سبحان الله وبحمده) ؛ فإنها أحب إلى الله من جبل ذهب ينفقه في سبيل الله عز وجل .)
وفيه أيضا: (من عجز منكم عن الليل أن يكابده، وبخل بالمال أن ينفقه، وجبن عن العدو أن يجاهده ؛ فليكثر ذكر الله .).
والذكر والتسبيح جائز للحائض بلا خلاف بين أهل العلم ، يقول الإمام النووي: (أجمع العلماء على جواز التسبيح والتهليل وسائر الأذكار غير القرآن للحائض والنفساء).
لا تبتئسي….. فيمكنك أن ترددي في نفسك من غير تلفظ ما تحفظين من القرآن، أو من المصحف دون أن تلمسيه كأن يكون موضوعا على حامل، وهذا أيضا جائز بلا خلاف بين أهل العلم . يقول الإمام النووي: (والنظر في المصحف وإمرار ما فيه في القلب جائز بلا خلاف).
بل ذهب بعض العلماء إلى جواز أن تقرئيه بصوت مسموع، وفي ذلك يقول الشيخ محمد صالح المنجد- من علماء المملكة العربية السعودية:
جمهور الفقهاء على حرمة قراءة الحائض للقرآن حال الحيض حتى تطهر ، ولا يستثنى من ذلك إلا ما كان على سبيل الذّكر والدّعاء ولم يقصد به التلاوة كقول : بسم الله الرحمن الرحيم ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة … الخ مما ورد في القرآن وهو من عموم الذكر .
وذهب بعض أهل العلم إلى جواز قراءة الحائض للقرآن وهو مذهب مالك ، ورواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية ورجحه الشوكاني .انتهى كلام المنجد.
لا تبتئسي …. فلا تزال مراتع الخير خصبة أمامك، ومن ذلك أن تذهبي إلى المسجد معلمة أو متعلمة ففي هذا فضل أدعك أن تسمعيه من صاحب الرسالة ﷺ(من غدا إلى مسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يعلمه، كان له كأجر حاج، تاما حجته) حسنه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
ولعلك تسألين … هل يجوز للحائض أن تدخل المسجد؟ وإليك الإجابة كما ذكرها الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:-
أجاز الحنابلة اللُّبث للجنب في المسجد إذا توضأ، لما روى سعيد بن منصور والأثرم عن عطاء بن يسار قال: رأيت رجالا من أصحاب رسول الله ﷺ، يجلسون في المسجد، وهم مجْنبون، إذا توضأوا وضوء الصلاة.
وهناك من الفقهاء من أجازوا للجنب ـ وكذلك للحائض والنفساء ـ الُّلبث في المسجد، بوضوء أو بغير وضوء، لأنه لم يثبت في ذلك حديث صحيح، وحديث “إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب” ضعفوه، ولا يوجد ما ينهض دليلا على التحريم، فيبقى الأمر على البراءة الأصلية. وإلى هذا ذهب الإمام أحمد والمزني وأبو داود وابن المنذر وابن حزم، واستدلوا بحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما: “المسلم لا ينجس”. وكذلك قياس الجنب على المشرك، فقد أجيز للمشرك وغير المسلم دخول المسجد، فالمسلم الجنب أولى.
ونميل إلى هذا اتباعا للأدلة، وجريا على منهجنا في التيسير والتخفيف، وخصوصا على الحائض، فإنها أولى بالتخفيف من الجنب، لأن الجنابة يجلبها الإنسان باختياره، ويمكنه دفعها وإزالتها باختياره، أي بالغسل، بخلاف الحيض، فقد كتبه الله على بنات آدم، فلا تملك المرأة أن تمنعه، ولا أن تدفعه قبل أوانه، فهي أولى بالعذر من الجنب. وبعض النساء يحتجن إلى المسجد لحضور درس أو محاضرة أو نحو ذلك، فلا تمنع منه. انتهى كلام القرضاوي.
بل ذهب الشيخ الألباني إلى جواز مس المصحف للحائض؛ لأن عمدة التحريم قوله ﷺ: ( لا يمس القرآن إلا طاهر) وذكر الشيخ الألباني أن الطاهر هو المؤمن سواء أكان محدثا حدثا أصغر أو حدثا أكبر، وأن المؤمن وإن كان محدثا فإنه لا ينجس، وقد عاب النبي ﷺ على أبي هريرة يوم خاف من مصافحة النبي ﷺ متعللا بأنه كان نجسا- يقصد على جنابة، فقال له : المؤمن لا ينجس، وإليك ما حكاه أبو هريرة بنفسه كما ذكر البخاري ومسلم، يقول أبو هريرة: ( لقيني رسول الله ﷺ وأنا جنب، فأخذ بيدي، فمشيت معه حتى قعد، فانسللت، فأتيت الرحل، فاغتسلت ثم جئت وهو قاعد، فقال: أين كنت يا أبا هر. فقلت له، فقال: سبحان الله يا أبا هر، إن المؤمن لا ينجس).
ويقول الشيخ الألباني مقررا ما ذهب إليه:-
الأقرب – والله أعلم – أن المراد بالطاهر في هذا الحديث هو المؤمن ، سواء أكان محدثا حدثا أكبر أو أصغر أو حائضا أو على بدنه نجاسة ، لقوله ﷺ ” المؤمن لا ينجس ” ، وهو متفق على صحته ، والمراد عدم تمكين المشرك من مسه ، فهو كحديث : ” نهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو ” ، متفق عليه أيضا ، وقد بسط القول في هذه المسالة الشوكاني في نيل الأوطار.