الأصل أن المسلم لا يسأل عن حكم العبادات ، فالعبادات أمور توقيفية غير معللة، فلا نسأل لماذا فرض الله الصبح ركعتين مع أن الإنسان في أوج نشاطه بينما فرض الظهر أربع ركعات بينما يكون الإنسان في أوج تعبه وشغله، على أن للإنسان أن يدرك الحكمة من وجوب الوضوء من الريح في وجود الأعداد الغفيرة في مسجد واحد، فلو كان الريح لا يفسد الوضوء لما تورع بعضهم عن إيذاء إخوانه به ، وفي هذا ما فيه .
يقول الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه فقه الطهارة :
من نواقض الوضوء: خروج الريح من الدبر؛ وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: ” لا يتقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ” وقد فسر أبو هريرة الإحداث: لما قال له رجل: ما الحدث؟ قال: فُساء أو ضُراط .
وفي الصحيحين عن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري: أنه شكا إلى رسول الله ﷺ: الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة (أي يحس بالحدث خارجا من دبره) فقال: “لا ينفتل أو لا ينصرف، حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا .
ومعناه: أنه باق على طهارته ووضوئه، لأنها يقين، فلا يزول بالشك، حتى يستيقن بسماع الصوت بأذنه، أو بريح يشمه بأنفه .
والفقهاء يعبرون عن هذه الأشياء التي ذكرناها: البول والغائط، والمذي والودي، والريح بـ (ما خرج من السبيلين). ويعنون بالسبيلين: القُبُل والدبر .
ثم ذكر الدكتور القرضاوي الحكمة في الوضوء من الريح فقال :-
وقد سألني بعض الناس عن الحكمة في الوضوء من خروج الريح، قائلا: الوضوء من البول والغائط معقول، لما فيه من التطهر والتنظف من أثر النجاسة. ولكني لا أفهم الحكمة في الوضوء من الريح؟
قلت له: إن الوضوء من جملة الأمور التعبدية، التي لا يشترط أن تعقل الحكمة فيها تفصيلا، إلا الامتثال للأمر من الرب، وفيه يتجلى تمام الطاعة المطلقة للأمر، وإن لم يفهم المكلف سره، بل يقول الرب: أمرت ونهيت، ويقول المكلف: سمعت وأطعت .
على أنه قد خطر لي حكمة لم أقرأها لأحد، ولم أسمعها من أحد، وهي: أن الإسلام شرع صلاة الجمعة والجماعة في المساجد، وفيها تتجمع أعداد كبيرة، لأوقات قد تطول، ولا سيما في الجمعة، وقد حرص الإسلام على أن يكون الناس في حالة من الطهارة والنظافة والزينة بحيث لا يؤذي بعضهم بعضا، بقذارته أو بسوء رائحته. ولهذا أوجب الغسل أو سَنَّه، وقال: ” من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا “.وقال: ” من أكل من هذه الشجرة ” ـ يعني الثوم ـ ” فلا يقربن مسجدنا “.
فحماهم من الرائحة الكريهة التي تأتي من فوق: من طريق الفم، وبقيت الرائحة التي تأتي من تحت: من الدبر. فلو أبيح لكل من هؤلاء أن يتبحبح في ذلك ما شاء، وقد يبلغون الآلاف في بعض المساجد، فربما كان من وراء ذلك أذى يضايق الناس، وخصوصا ذوي الحس المرهف منهم، ولا يستطيعون أن يقولوا شيئا. فكان منع ذلك باسم الدين منعا لسبب من أسباب الأذى، دون إحراج لأحد .
وقد خطر لي هذا الخاطر منذ مدة طويلة، حيث كنا مجموعة من الشباب نبيت في مكان واحد، وكان بعضنا يشكو من سوء الروائح التي غيرت جو المكان بما لا يطاق، وصار بعضهم يتهم بعضا. فأدركت السر في اعتبار ذلك ناقضا للوضوء، مانعا من الصلاة. وأعتقد أنه اعتبار مقبول، وأنها حكمة غير مرفوضة .