نَقْضُ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ النِّسَاءِ لِلْفُقَهَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ , طَرَفَانِ وَوَسَطٌ :
أَضْعَفُهَا : أَنَّهُ يُنْقَضُ بِاللَّمْسِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِشَهْوَةٍ إذَا كَانَ الْمَلْمُوسُ مَظِنَّةً لِلشَّهْوَةِ , وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } وَفِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى { أَوْ لَامَسْتُمْ } .
الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ اللَّمْسَ لَا يَنْقُضُ بِحَالٍ , وَإِنْ كَانَ لِشَهْوَةٍ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ , وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ يُذْكَرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ , لَكِنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِهِ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ.
وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةِ : أَنَّ اللَّمْسَ إنْ كَانَ لِشَهْوَةٍ نَقَضَ , وَإِلَّا فَلَا , وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ مُتَوَجِّهٌ إلَّا هَذَا الْقَوْلَ أَوْ الَّذِي قَبْلَهُ . فَأَمَّا تَعْلِيقُ النَّقْضِ بِمُجَرَّدِ اللَّمْسِ , فَهَذَا خِلَافُ الْأُصُولِ , وَخِلَافُ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ , وَخِلَافُ الْآثَارِ , وَلَيْسَ مَعَ قَائِلِهِ نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ , فَإِنْ كَانَ اللَّمْسُ فِي قوله تعالى { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } إذَا أُرِيدَ بِهِ اللَّمْسُ بِالْيَدِ , وَالْقُبْلَةُ , وَنَحْوُ ذَلِكَ , كَمَا قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ , فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ حَيْثُ .
ذُكِرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ مَا كَانَ لِشَهْوَةٍ , مِثْلُ قَوْلِهِ فِي آيَةِ الِاعْتِكَافِ : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } . وَمُبَاشَرَةُ الْمُعْتَكِفِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ , بِخِلَافِ الْمُبَاشَرَةِ لِشَهْوَةٍ , وَكَذَلِكَ الْمُحْرِمُ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ , لَوْ بَاشَرَ الْمَرْأَةَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ . وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بِهِ دَمٌ , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } .
وَقَوْلُهُ : { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } . فَإِنَّهُ لَوْ مَسَّهَا مَسِيسًا خَالِيًا مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَجِبْ بِهِ عِدَّةٌ , وَلَا يَسْتَقِرُّ بِهِ مَهْرٌ , وَلَا تَنْتَشِرُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ , بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ , بِخِلَافِ مَا لَوْ مَسَّ الْمَرْأَةَ لِشَهْوَةٍ , وَلَمْ يَخْلُ بِهَا , وَلَمْ يَطَأْهَا , فَفِي اسْتِقْرَارِ الْمَهْرِ بِذَلِكَ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ .
فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ : { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } يَتَنَاوَلُ اللَّمْسَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِشَهْوَةٍ , فَقَدْ خَرَجَ عَنْ اللُّغَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ , بَلْ وَعَنْ لُغَةِ النَّاسِ فِي عُرْفِهِمْ , فَإِنَّهُ إذَا ذَكَرَ الْمَسَّ الَّذِي يُقْرَنُ فِيهِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عُلِمَ أَنَّهُ مَسُّ الشَّهْوَةِ , كَمَا أَنَّهُ إذَا ذُكِرَ الْوَطْءُ الْمَقْرُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالْمَرْأَةِ , عُلِمَ أَنَّهُ الْوَطْءُ بِالْفَرْجِ لَا بِالْقَدَمِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ إنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِلَمْسِ النِّسَاءِ مُطْلَقًا , بَلْ بِصِنْفٍ مِنْ النِّسَاءِ , وَهُوَ مَا كَانَ مَظِنَّةَ الشَّهْوَةِ , فَأَمَّا مَسُّ مَنْ لَا يَكُونُ مَظِنَّةً , كَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ , وَالصَّغِيرَةِ فَلَا يُنْقَضُ بِهَا , فَقَدْ تَرَكَ مَا ادَّعَاهُ مِنْ الظَّاهِرِ وَاشْتَرَطَ شَرْطًا لَا أَصْلَ لَهُ بِنَصٍّ وَلَا قِيَاسٍ , فَإِنَّ الْأُصُولَ الْمَنْصُوصَةَ تُفَرِّقُ بَيْنَ اللَّمْسِ لِشَهْوَةٍ , وَاللَّمْسِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ , لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَلْمُوسُ مَظِنَّةَ الشَّهْوَةِ , أَوْ لَا يَكُونُ .
وَهَذَا هُوَ الْمَسُّ الْمُؤَثِّرُ فِي الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا , كَالْإِحْرَامِ , وَالِاعْتِكَافِ , وَالصِّيَامِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ , وَلَا الْقِيَاسُ , لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ .
وَأَمَّا مَنْ عَلَّقَ النَّقْضَ بِالشَّهْوَةِ فَالظَّاهِرُ الْمَعْرُوفُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ دَلِيلٌ لَهُ , وَقِيَاسُ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ دَلِيلٌ . وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّمْسَ نَاقِضًا بِحَالٍ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ اللَّمْسَ إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْجِمَاعُ , كَمَا فِي قوله تعالى : { { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } .
وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ . وَفِي السُّنَنِ : { أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ } . لَكِنْ تُكُلِّمَ فِيهِ .
وَأَيْضًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَسَّ النَّاسِ نِسَاءَهُمْ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى , وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَمَسُّ امْرَأَتَهُ , فَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَهُ لِأُمَّتِهِ , وَلَكَانَ مَشْهُورًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ , وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِمُجَرَّدِ مُلَاقَاةِ يَدِهِ لِامْرَأَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا , وَلَا نَقَلَ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنْ النَّبِيِّ ﷺ.