ستظل الشبهات ما بقيت الدنيا، وسيظل التشكيك في الدين ما بقي الدين، وعلى المرء أن يحصن نفسه بقوة العلم، ورسوخ العقيدة حتى لا يشوش عليه فكره، وحتى لا تزعزع الشبهات عقيدته.

من الأمور التي قد تأتي في أذهان بعض الناس: لماذا لم يمنع الله الناس من المعاصي، ويحملهم على الطاعة حملا؟ ومعنى ذلك أن هذا المشكك كان يود لو أن الله صادر حريات الناس وطبعهم مؤمنين، وجعلهم أمة واحدة.

وقبل أن ندخل في التفاصيل، نقول: لو أن الله صنع ذلك سنجد من يأتي فيقول: لماذا أكره الله الناس على الإسلام؟ لماذا لم يمنحهم حرية الاختيار؟

إن مبدأ إعطاء الناس الحرية في الدين الذي يعتنقونه من أهم المبادئ التي ازدان بها الإسلام، فكيف تتحول إلى سبة ونقيصة؟
إذا كان من يفكر بهذا يتألم لمآل أهل النار، ويشفق عليهم، ويود لو أن الله أنقذهم فأجبرهم على الإسلام، إذا كان يقر بذلك فهلا أنقذ نفسه مادام قد عرف الحق، إذا كان يعرف ذلك فهل دعا الناس إلى طريق الخلاص ليخلصهم مما يتخوفه عليهم.

أو هل يطرب ويفرح لو أن المسلمين – في عصورهم السالفة يوم كانوا ملوك الأرض – حملوا الناس على الإسلام بالسيف ، وهل كان يقبل هذا لو أن المسلمين اعتذروا عن بطشهم هذا بأنهم يريدون أن يجنبوا الناس النار، أم أنه كان سيجلس ويحمل الإسلام هذه التبعة وكأنها سبة في وجوه المسلمين.

يامن تشكك في الله وفي دينه:

إن الله لا يجبر أحدا على فعل شيء ، بل خلق الناس ، وأودع فيهم ما يميزون به بين الخير والشر ، وأرسل إليهم الرسل ، وترك لهم حرية الاختيار ، الكفر والإيمان ، فإن الله لا يجر الناس إلى الجنة بالسلاسل ، وكذلك لا يجرهم إلا النار بالسلاسل، بل كل وما كسبت يداه .

وكما أن من حق الطائع أن ينعم بجزاء الطاعة ، وأن يفوز بما أعده الله للطائعين بعدما تعب ونصب ، من حقه أن يطوف أرض المحشر بكتابه وقد تلقاه بيمينه ليهنئه الناس ، ويهنيء نفسه بما فاز به بعد تعب ونصب .

كما أن من حق الطالب الناجح أن تعلق نتيجة الامتحان ، ليكون اسمه ملء الأسماع والأبصار بعدما نجح ، فإذا أتى الطالب الفاشل ، ومزق ورقة النتيجة ليخفي فضيحته عن أعين الناس ، فمن حق الناجح وقتها أن يقاضيه ؛ لأنه أفسد عليه لذته ، ويريد أن يمنعه فرحته .

فكذلك الطائعون يريدون يوم القيامة ، يوم الجوائز والهدايا ، وينتظرونه على أحر من الجمر ، بينما يود المجرمون أن لو كانت موتتهم قاضية لا بعث بعدها حتى لا ينالوا جزاء ما أسرفت أيديهم ، يقول الله عز وجل : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34).

يامن تشكك في الله وفي دينه:
لو لم يتهدد الله الظالمين بعقاب رادع، وجزاء موجع لانبرى القوي لا يترك للضعيف مالا ولا أمنا، ولسلبه حريته، وأمنه ، وعرضه ، وماله، وما خوفه شيء، وما منعه شيء.
أما إذا علم أن الموعد الله فهذا إيذان لقواه أن تخور، ولبطشه أن يزول، ولفرائصه أن ترتعد ، فيمسك عن الظلم وهو قادر خوفا ممن هو أقدر، وينتهي عن البطش وهو مستطيع خوفا ممن بيده حياته ومماته.

كم ينتظر قضاء الله يوم القيامة من مظلوم، وكم يتوق إليه من مستضعف، وكم يرنو إليه من ضعيف لا يجد اليوم نصيرا.
فبانتظار فصل الله للقضاء بين الناس يطمئن المظلوم، ويرتدع الظالم، ويهدأ الموتور، ويشتاق الصابر، ويجتهد المقصر، ويشمر المقتصد.

لما قدم جعفر من الحبشة قال له رسول الله : (ما أعجب شيء رأيته) ؟ قال: رأيت امرأة على رأسها مكتل طعام فمر فارس فأذراه فقعدت تجمع طعامها، ثم التفتت إليه فقالت له: ويل لك يوم يضع الملك كرسيه فيأخذ للمظلوم من الظالم فقال رسول الله تصديقا لقولها: (لا قدست أمة – أو كيف تقدس أمة – لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها).

ويقول الشيخ سيد قطب صاحب كتاب ( في ظلال القرآن) عند تفسير قوله تعالى (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ) (يونس : 99 )

أي ولو شاء ربك لخلق هذا الجنس البشري خلقة أخرى ، فجعله لا يعرف إلا طريقاً واحداً هو طريق الإيمان كالملائكة مثلاً . أو لجعل له استعداداً واحداً يقود جميع أفراده إلى الإيمان .
ولو شاء كذلك لأجبر الناس جميعاً وقهرهم عليه ، حتى لا تكون لهم إرادة في اختياره .

ولكن حكمة الخالق التي قد ندرك بعض مراميها وقد لا ندرك ، دون أن ينفي عدم إدراكنا لها وجودها .

هذه الحكمة اقتضت خلقة هذا الكائن البشري باستعداد للخير وللشر وللهدى والضلال .

ومنحته القدرة على اختيار هذا الطريق أو ذاك .

وقدرت أنه إذا أحسن استخدام مواهبه اللدنية من حواس ومشاعر ومدارك ، ووجهها إلى إدراك دلائل الهدى في الكون والنفس وما يجيء به الرسل من آيات وبينات ، فإنه يؤمن ويهتدي بهذا الإيمان إلى طريق الخلاص .

وعلى العكس حين يعطل مواهبه ويغلق مداركه ويسترها عن دلائل الإيمان يقسو قلبه ، ويستغلق عقله ، وينتهي بذلك إلى التكذيب أو الجحود ، فإلى ما قدره الله للمكذبين الجاحدين من جزاء.
فالإيمان إذن متروك للاختيار . لا يكره الرسول عليه أحداً . لأنه لا مجال للإكراه في مشاعر القلب وتوجهات الضمير.