المراقبة تأخذ أحد معنيين :

معنى محمود، إن كان المقصد منه مراقبة الله تعالى والخوف منه ، ومراقبة حدوده والقيام على تنفيذها بين البشر.

ومعنى مذموم، عندما تنتهك فيه الحرمات ، وتكشف الأستار والأسرار ، أو تصادر فيه الحريات ، وهذا غير جائز .

يقول فضيلة الأستاذ الدكتور الشيخ أحمد الشرباصي الأستاذ بجامعة الأزهر – رحمه الله تعالى:

لكل كلمة في لغتنا العربية الكريمة الخالدة معنى أو بضعة معان عامة، تدور حولها استعمالات الكلمة ومدلولاتها، تارة على وجه الحقيقة، وتارة على وجه المجاز؛ ونحن إذا تناولنا كلمة “الرقيب” أو “الرقابة” واستهدينا معاجم اللغة في أغلب تصاريفها واستعمالاتها، وجدناها تدور حول معاني التوقع، والانتظار، والتطلع، والحراسة، والحفظ، والحذر، والخوف مما يُخشى، والعلو مع التسامي والقوة!. وهي في مجموعها كما نرى معان تدل على أخلاق نُحبُّهَا، وطبائع نود شيوعها، حتى لنود أن يكون لكل فرد منا نصيب من المعنى الجميل العام لكلمة الرقابة أو الرقيب.

والمراقبة عند أهل السلوك كما في “كشاف اصطلاحات الفنون” هي حفظ القلب عن خواطر السوء، وقيل: هي أن تعلم أن الله على كل شيء قدير. وقيل عن حقيقتها: هي أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، كما جاء في الحديث الشريف.

وأساس المراقبة عند أهل السلوك والتصرف هو الخوف من الله، واستشعار رهبته وهيبته وجلالته، في الحركة والسكون، والغيبة والحضور، حتى يصير المرء المراقب ـ بكثرة الخوف وطول الاستحضارـ “ربانيًّا”، كأنه لا يسعى، بل الله هو الذي يسعى له، وفي حديث الرسول ما يوضح ذلك بأجلى بيان.

وقد عقد حجة الإسلام الإمام الغزالي في الجزء الرابع من كتابه “إحياء علوم الدين” فصلًا طويلًا عميقًا عن “المراقبة” صال فيها وجال على طريقته التحليلية الممزوجة بالنزعة الصوفية والطريقة الروحية والطابع الديني المُسيطر وهو ـ وإن كان مِن واجبك أن تطالعه لتصقل روحك بما فيه ـ يعتمد أيضًا على أن المراقبة أساسها خوف الله، واستحضار جلاله، وتصور عقابه، ومن نصوصه التي أيَّد بها كلامه يظهر لك هذا الأساس أتم ظهور… فهو يستشهد مثلًا بقول ابن المبارك، وقد سُئِلَ عن معنى المراقبة: كن أبدًا كأنك ترى الله ـ عز وجل ـ ويقول المُحاسبي: أول المراقبة علم القلب بقرب الرب. ويقول الترمذي: اجعل مراقبتك لمَن لا تغيب عن نظره إليك، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه.

وما من أمة أو جماعة إلا وهي بحاجة إلى الرقابة والرقباء، مع حسن استعمال هذه الرقابة، وإخلاص أولئك الرقباء: والأمة في حاجة إلى رقباء على الدين، ينفون عنه الباطل، ويصدون عنه تيار التحريف، وينطقون من أجله بكلمة الحق، ويطبقونه كما نزل!.

والأمة بحاجة إلى رقباء على المال، فلا يُجمع هذا المال إلا من حِله وبطريقه المشروع، ولا ينفق إلا في خير أو منفعة، بلا استغلال أو إسراف!.

والأمة بحاجة إلى رقباء على الولاية وأهليها، كي لا يستغلها أهلوها أو ينحرفوا بها، فتصير تسلُّطًا واستبدادًا، وهي في أصلها تضحية وإيثار!.

والأمة بحاجة إلى رقباء على الأخلاق التي هانت، والحُرُمات التي ضاعت، والأعراض التي دُنِّسَت، فيعمل هؤلاء الرقباء على أن تقود الأخلاق، ولا تقود الشهوات، وأن تُحْفَظ الحُرمات لا أن تذل الكرامات، وأن تُصان الأعراض لا أن تُهان المكارم!.

والأمة أخيرًا بحاجة شديدة إلى “رقيب” نفسي، تُحاسِب النفس به ذاتها قبل أن يُحاسبها سواها.. سَمِّهِ الضمير أو القلب أو الخُلق أو الدين، فقد تختلف الأسماء باختلاف الاصطلاح والثقافة، ولكن المعنى سيظل واحدًا، وهو أنه يجب أن يكون للنفس منها عليها “سُلطان”، ولو أنصف الناس مُمثلين في الأفراد لاستراح القاضي!.

على أن هناك ألوانًا من الرقابة لا يرضاها إلا دخيل أو ظنين، وألوانًا من الرقابة يعافها الناس ويَبغَضونها، فالرقابة على حرية الفكر وإبداء الرأي شَرٌّ مُستطير، وخاصة إذا وضعت هذه الرقابة في الأيدي التي تُسيء الاستغلال، وتصيد في الظلام؛ والرقابة تُكره بين الأحباء والأخلاء، والرقابة تُكره إذا كانت تجسسًا على الناس، وتتبعًا لعوراتهم، وتسقطًا لزلاتهم، ولذلك نهت الأديان والأخلاق عن مثل ذلك الخُلُق الذَّمِيم!..

ومهما يكن مِن شيء فلن يتجادل اثنان في أن وجود “الرقيب النزيه المُخلص”هو الأساس!…