الفطرة النقية للإنسان تدله على وجود الله تعالى ، وتوقن أن لهذا الكون الفاني خالقا باقيا ، فمنه يستمد القوة ،وإليه يلجأ ، وعليه يتوكل ، فآثار الله تعالى في ذات الإنسان تدفع هذا الإنسان للإيمان بالواحد الأحد ، دون أن يحتاج إلى دليل ، وهل يعمى عن النهار إلا فاقد البصر والبصيرة ؟!

فإن الإيمان بالله تعالى لا يحتاج إلى دليل ، بل يستطيع الإنسان بفطرته التي فطر عليها أن يؤمن بوجوده تعالى ، ومع هذا ، فإن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب وشرع الشرائع والعقائد ، ليعرفه الناس ، رحمة بهم.

يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي :

إن أول دليل على وجود الله ـ جَلَّ جلاله ـ ليس شيئًا خارجًا عن كيان الإنسان؛ إنه الفطرة التي فَطر الله الناس عليها؛ إنه ذلك الشعور الطبيعي البصير الغامر، بأنَّ فوق الكائنات المحدودة المتناهية، كائنًا غير محدود ولا مُتناهٍ، يُهيمِن على كل شيء ويُدبر كل أمر، يُرجَى ويُخشَى، ويُعظَّم ويُقصَد، شعور يَنبُع مِن أعماق الإنسان، ويُستَمَد مِن كيانه كله، لا من عقله وحده، ولا من وجدانه بمفرده، شعور يَجِدُه الإنسان في نفسه بغير تعلُّم ولا تلقين ولا اكتساب.

ويُعبِّر الفيلسوف الشهير “ديكارت” عن هذا الشعور الفطري فيقول:

“إني مع شعوري بنقْص في ذاتي، أُحِسُّ في الوقت نفسه بوجود ذات كاملة، وأَراني مضطرًا إلى اعتقادي بأن هذا الشعور قد غرستُه في ذاتي تلك الذات الكاملة المتحلِّية بجميع صفات الكمال، وهي الله”.

وكلما كان الإنسان أَسْلَمَ فطرةً وأزكي نفسًا، رَقَّ حِجابه وتَفتَّحتْ عينُ بصيرته، وارتفع عن جاذبيةِ الطين، وحَلَّق في أجواء الروح، وحينئذ يَشعُر بأن وجود الله يَملأ عليه أقطار نفسه، ويَغمُر كِيانه كله، فيُحِسُّ بأنه غيرُ محتاج إلى دليل على وجود ربه ـ سبحانه ـ خارج عن ذاته وكيانه هو، بل يَشعُر أن وجود الله أظهرُ من كل شيء، بل هو دليلُ كلِّ شيء، (أوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أنَّهُ على كلِّ شيءٍ شهيدٌ) (فصلت: 53).

يَروون أن أحد العلماء الصالحين الموقنين قيل له يومًا: إن فلانًا من علماء “الكلام” قد أقام على وجود الله ألف دليل، فقال: لأنَّ في نفسه ألفَ شبهة!!

وهذا جواب مَن وَضَح الأمرُ في نفسه بحيث لا يَحتاج إلى إقامة برهان، على نحو ما قال الشاعر:
وليس يَصِحُّ في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل!

وسُئل بعض العارفين: بِمَ عَرفتَ ربك؟ فأجاب: عَرَفْتُ ربي بربي!
ويقول ابن عطاء الله السكندري في هذا المعنى:
“إلهي، كيف يُستدَل عليك، بما هو في وجوده مُفْتَقِرٌ إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكونَ هو المُظِهر لك، متى غِبْتَ حتى تحتاج إلى دليل يَدل عليك؟ ومتى بَعُدتَّ حتى تكون الآثار هي التي تُوصِّل إليك”؟

هذا ما نقصده بالفطرة: إن الإنسان ـ سواءٌ أكان جاهلاً أم عالمًا ـ لو جَرَّد نفسه من آثار الوارثات المختلفة، ومَحَا من ذهنه كل ما يَربِطه بالمكان الذي يعيش فيه، والمَذهب الذي يَنتمي إليه، ثم تَفَكَّر بعد ذلك في الكون وفي نفسه؛ لاندَفع بفطرته وطبيعته اندفاعًا اضطِراريًّا، ليَجِدَ نفسه ساجدًا خاشعًا أمام ربه العلي العظيم، الرحمن الرحيم .

إن الذي علم الإنسان أن 1 + 1 = 2 بدون برهان ولا مُقدِّمات منطقية هو الذي علمه أن له إلهًا لا يَستغنِي عنه، بدون حاجة إلى استدلال، ولا انتقال من معلوم إلى مجهول، ومن مُقدِّّمات إلى نتائج.
هذا الشعور الفطري قد يَختفِي في ساعات العافية والرخاء والغِنَى الذي يُطْغِي الإنسان ويَحجُبه أحيانًا عن رؤية نفسه على حقيقتها، فإذا نزَل بالإنسان شدائدُ قاهرة، ذابَ الطِّلاءُ الكاذب الذي غَشَّى الفطرة الأصلية، ورَجَع الإنسانُ إلى ربه ضارعًا مُنيبًا إليه.

سأل رجل الإمام جعفر الصادق عن “الله” فقال له: “ألم تَركبِ البحر؟ قال: بلى، قال: فهل حَدَثَ لك مَرَةَّ أن هاجت بك الريح عاصفة؟ قال: نعم، قال: وانقَطع أمَلُك مِن المَلاَّحِين ووسائلِ النجاة؟ قال: نعم، قال: فهل خَطَرَ ببالِك، وانقَدَحَ في نفسك، أن هناك مَن يستطيع أن يُنجِيَك إنْ شاء ؟ قال: نعم، قال جعفر: فذلك هو “الله”.
وإلى هذه الحقيقة يُشير القرآن الكريم إذْ يقول: (هو الذي يُسيِّركم في البرِّ والبحرِ حتَّى إذا كنتم في الفُلكِ وجَرَينَ بهم بريحٍ طيبةٍ وفَرِحوا بها جاءتْها رِيحٌ عاصفٌ وجاءَهمُ المَوجُ مِنْ كلِ مكانٍ وظنُّوا أنهمْ أُحِيطَ بهم دَعُوُا اللهَ مخلِصينَ له الدينَ لئنْ أنْجيتنَا مِن هذه لنَكونَنَّ من الشاكرين) (يونس: 22).

والقرآن الكريم يُصَوِّرُ أَصَالةَ هذه الفكرة، وشُمولَها لكل أفراد النوع الإنساني تصويرًا بليغًا، يأخذ بمَجامِعِ القلوب، ويَسوقُها إلى ربِّها سَوقًا حثيثًا، ويَعْرِضُ ذلك في صورة ميثاق قديم بين الإنسانية وبين ربها، على أن تؤمن به وتَعبُدَه، وتُوَحِّده، فلنَسمَع إليه يقول: (وإذْ أَخذَ ربُّك مِنْ بَني آدمَ مِنْ ظُهورِهم ذُرِّيَّتَهم وأَشهَدَهُم على أنفسِهم ألَستُ بربِّكم قالوا بلى شَهِدْنا أن تقولوا يوم القيامة إنَّا كُنَّا عن هذا غافلين أو تَقولوا إنما أشْركَ آباؤُنا مِنْ قَبلُ وكنَّا ذريةً مِنْ بعدهم أفَتُهلِكُنا بما فَعلَ المُبطلِون) (الأعراف: 172 ـ173).

ولما كان هذا الشعور أمرًا فطريًّا كما تَبيَّن لنا، وَجدنا أصل الإيمان قدْرًا مُشترَكًا بين جميع الأمم، وفي مختلف الأقاليم، وفي شتَّى عصور التاريخ، وإنْ كان الكثيرون قد انحرفوا عن الإيمان الصحيح، وخَلَطُوه بأوهام وأباطيل كَدَّرتْ نقاءَه، وأَفسدتْ جوهَرَه.
يقول الفيلسوف المعروف هنري برجسون “لقد وُجدتْ وتُوجد جماعة إنسانية من غير علوم وفنون وفلسفات، ولكن لم توجد قَطُّ جماعات بدون ديانة”.

ويقول المؤرخ الإغريقي القديم بلوتارك: “لقد وُجِدت في التاريخ مُدُن بلا حُصون، ومُدُن بلا مدارس، ومدن بلا قصور، ولكن لم توجد مُدُن بلا معابد”.

والدارسون لتاريخ الأديان، يؤكدون أن الإنسان لن يستطيع مهما بَلغ من العلم والتمدُّن أن يَستغني عن الإيمان والدين.
يقول الفيلسوف “رينان” في كتابه “تاريخ الأديان”: “إنه من الممكن أن يَضمحِلَّ كل شيء نُحبه، وأن تَبطُل حرية استعمال العقل والعلم والصناعة، ولكن يَستحيل أن يَنمحي التديُّن، بل سيَبقى حُجَّةً ناطقة على بُطلان المذهب المادي، الذي يُريد أن يَحْصُر الفكر الإنساني في المضايق الدنيئة في الحياة الأرضية”.