الراجح أن الذي يفطر هو الطعام والشراب ، وأن الصيام هو الامتناع عنهما ، أما ما يدخل الجسم عن طريق الأنف ، أو الأذن ، أو العين فلا يفطر ، وعليه فلا بأس بلبس العدسات اللاصقة للعين ، سواء وصل العين من سائل التنظيف شيء أم لم يصل.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي:
لقد توسع الفقهاء – رضي الله عنهم – في أمر المفطرات توسعًا ما أظنه خطر ببال أحد من أصحاب النبي ﷺ الذين شاهدوا التنزيل، وفهموا عن الله ورسوله فأحسنوا الفهم، والتزموا فأحسنوا الالتزام.
والواقع أن جُلَّ ما يقال في هذا المجال – مجال المفطرات – مما لم يدل عليه محكم قرآن ولا صحيح سنة، ولا إجماع أمة، إنما هي اجتهادات يؤخذ منها ويترك، وآراء بشر، يجب أن تحاكم وترد إلى النصوص الأصلية، والقواعد المرعية، والمقاصد الكلية.
والذي أميل إليه هنا: ألا يُفطِّر الصائم إلا ما أجمع الفقهاء على التفطير به، وذلك ما دل عليه محكم القرآن وصحيح السنة، واتفق مع حكمة الشارع من الصيام، وهو الحرمان من الشهوات، وفطام النفس عن المألوفات.
وهو الذي يميل إليه الإمام البخاري، كما يبدو مما ذكره في صحيحه.
فتحريم الكتاب للأكل والشرب أمر مقرر لكن من الذي يقول: إن من ابتلع حصاة، أو حبة خردل، أو ما بين أسنانه، أو نخامة أو بلغمًا، أو اكتحل فأحس طعم الكحل في حلقه أو استعمل الحقنة في دبره.. إلخ.. أن هذا يدخل في عموم الأكل أو الشرب المحرم على الصائم؟
هذا ما لا دليل عليه.
مذهب ابن حزم:
وهذا هو الذي رجَّحه الإمام الظاهري أبو محمد بن حزم، الذي لم يجد في ظواهر نصوص الشرع ما يؤيد التوسع الذي ذهب إليه جمع من الفقهاء، فقال في (المُحلى):
(ولا ينقض الصوم حجامة، ولا احتلام.. ولا قيء غالب، ولا قلس – ما تقذفه المعدة عند امتلائها – خارج من الحلق ما لم يتعمد رده بعد حصوله في فمه وقدرته على رميه، ولا دم خارج من الأسنان أو الجوف، ما لم يتعمد بلعه، ولا حقنة ولا سعوط ولا تقطير في أذن، أو في إحليل – رأس الذكر – أو في أنف ولا استنشاق وإن بلغ الحلق، ولا مضمضة دخلت الحلق من غير تعمد ولا كحل – وإن بلغ إلى الحلق نهارًا أو ليلاً – بعقاقير أو بغيرها، ولا غبار طحن، أو غربلة دقيق، أو حناء، أو غير ذلك أو عطر، أو حنظل، أو أي شيء كان، ولا ذباب دخل الحلق بغلبة، ولا من رفع رأسه فوقع في حلقه نقطة ماء بغير تعمد لذلك منه، ولا مضغ زفت أو مصطكي أو علك- ، ولا سواك برطب أو يابس، ومضغ طعام – حتى يستسيغه الطفل – أو ذوقه، ما لم يتعمد بلعه، ولا مداواة جائفة أو مأمومة – جرح بالرأس- بما يؤكل أو يشرب أو بغير ذلك، ولا طعام وجد بين الأسنان: أي وقت من النهار وجد، إذا رمي، ولا دخول حمام، ولا تغطيس في ماء، ولا دهن شارب) (المحلى لابن حزم -300/6،301).
قال أبو محمد:
(إنما نهانا الله تعالى في الصوم عن الأكل، والشرب والجماع وتعمد القيء والمعاصي، وما علمنا أكلا، ولا شربًا، يكون على دبر، أو إحليل أو أذن أو عين، أو أنف، أو من جرح في البطن، أو الرأس!! وما نهينا قط عن أن توصل إلى الجوف – بغير الأكل، والشرب – ما لم يحرم علينا إيصاله) (المصدر السابق -318/6).!!.
ترجيح ابن تيمية:-:
وهذا الاتجاه هو الذي أيده – وتوسع في تأييده بعدد من الحجج القوية – شيخ الإسلام ابن تيمية، في رسالة له، نُشرت منفردة، وضمن مجموع فتاواه.
ونظرًا لأهمية الموضوع، وحاجة عموم الناس إليه، لصلته بعبادة تتعلق بجميع المسلمين، ويتكرر السؤال عنها كل عام، وتختلف الأجوبة فيها إلى حد يحير المسلم العادي.
أرى أن أنقل هنا أهم ما استدل به شيخ الإسلام لهذا الاتجاه الذي يضيق فيما يُفطر الصائم.
فقد تكلم عن الكحل والحقنة، وما يُقطر في الإحليل، ومداواة الآمة (جرح الدماغ) والجائفة (جرح الجوف) وغيرها مما تنازع فيه أهل العلم، هل يفطر به الصائم أو لا؟.
قال: والأظهر أنه لا يفطر شيء من ذلك، فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام، ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة، كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي ﷺ في ذلك لا حديثًا صحيحًا ولا ضعيفًا ولا مسندًا ولا مرسلاً، علم أنه لم يذكر شيئًا من ذلك.
والذين قالوا: إن هذه الأمور تفطر كالحقنة ومداواة المأمومة والجائفة، لم يكن معهم حجة عن النبي ﷺ، وإنما ذكروا ذلك بما رأوه من القياس، وأقوى ما احتجوا به قوله: “وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا” قالوا: فدل ذلك على أن ما وصل إلى الدماغ يفطر الصائم إذا كان بفعله، وعلى القياس كل ما وصل إلى جوفه بفعله من حقنة وغيرها، سواء كان ذلك في موضع الطعام والغذاء أو غيره من حشو جوفه.
ثم قال رضي الله عنه:.:-:
وإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى لا بد أن يبينها الرسول ﷺ بيانًا عامًا، ولا بد أن تنقل الأمة ذلك: فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب، فلو كان هذا مما يفطر لبينه النبي ﷺ كما بين الإفطار بغيره. فلما لم يبين ذلك علم أنه من جنس الطيب والبخور والدهن، والبخور قد يتصاعد إلى الأنف ويدخل في الدماغ وينعقد أجسامًا، والدهن يشربه البدن ويدخل إلى داخله ويتقوى به الإنسان، وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيدة، فلما لم ينه الصائم عن ذلك دل على جواز تطييبه وتبخيره وادّهانه، وكذلك اكتحاله.
وقد كان المسلمون في عهده ﷺ يجرح أحدهم، إما في الجهاد وإما في غيره، مأمومة وجائفة، فلو كان هذا يفطر لبين لهم ذلك، فلما لم ينه الصائم عن ذلك علم أنه لم يجعله مفطرًا.
ثم بين شيخ الإسلام: أن إثبات التفطير بالقياس يحتاج إلى أن يكون القياس صحيحًا، وذلك إما قياس علة بإثبات الجامع، وإما بإلغاء الفارق. فإما أن يدل دليل على العلة في الأصل فيعدى بها إلى الفرع، وإما أن يعلم أن لا فارق بينهما من الأوصاف المعتبرة في الشرع، وهذا القياس هنا منتف.
وذلك أنه ليس في الأدلة ما يقتضي أن المفطر الذي جعله الله ورسوله مفطرًا هو ما كان واصلاً إلى دماغ أو بدن، أو ما كان داخلاً من منفذ، أو واصلاً إلى الجوف، ونحو ذلك من المعاني التي يجعلها أصحاب هذه الأقاويل هي مناط الحكم عند الله ورسوله، ويقولون: إن الله ورسوله إنما جعل الطعام والشراب مفطرًا، لهذا المعنى المشترك من الطعام والشراب، ومما يصل إلى الدماغ والجوف من دواء المأمومة والجائفة، وما يصل إلى الجوف من الكحل ومن الحقنة والتقطير في الإحليل ونحو ذلك.
وإذا لم يكن على تعليق الله ورسوله للحكم بهذا الوصف دليل، كان قول القائل: “إن الله ورسوله إنما جعلاً هذا مفطرًا لهذا” قولاً بلا علم، وكان قوله: “إن الله حرم على الصائم أن يفعل هذا” قولاً بأن هذا حلال وهذا حرام بلا علم، وذلك يتضمن القول على الله بما لا يعلم، وهذا لا يجوز.
ومن اعتقد من العلماء أن هذا المشترك مناط الحكم فهو منزلة من اعتقد صحة مذهب لم يكن صحيحًا، أو دلالة لفظ على معنى لم يرده الرسول، وهذا اجتهاد يثابون عليه، ولا يلزم أن يكون قولاً بحجة شرعية يجب على المسلم اتباعها.
ثم ذكر شيخ الإسلام أن القياس إنما يصح إذا لم يدل كلام الشارع على علة الحكم.
ومعلوم أن النص والإجماع أثبتا الفطر بالأكل والشرب والجماع والحيضة، وليس كذلك الكحل والحقنة ومداواة الجائفة والمأمومة. فإن الكحل لا يغذى البتة، ولا يدخل أحد كحلاً إلى جوفه لا من أنفه ولا فمه، وكذلك الحقنة لا تغذي، بل تستفرغ ما في البدن، كما لو شم شيئًا من المسهلات أو فزع فزعًا أوجب استطلاق جوفه وهي لا تصل إلى المعدة.
والدواء الذي يصل إلى المعدة في مداواة الجائفة والمأمومة لا يشبه ما يصل إليها من غذائه والله سبحانه قال: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).
وقال ﷺ: “الصوم جنة” وقال: “إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع والصوم.
فالصائم نهي عن الأكل والشرب لأن ذلك سبب التقوي…