مفهوم تزكية النفس:
(نجاحنا رهن بصلاح أنفسنا) حقيقة أكدها الإسلام في كتابه العزيز كما قال تعالى : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَد أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) ولذلك كانت التزكية عنصرا مهما في رسالة النبي كما ذكر في أكثر من موضع في القرآن ( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
ما معنى تزكية النفس:
التزكية في مفهومها اللغوي والشرعي عملية إجرائية ذات شقين :
الأول : تطهيري : يعمل أولا على معالجة الصفات السلبية لدى الشخص و تأمين عوامل مواتية تساعد الفرد على حل مشكلاته وصراعاته وتيسير سبل معالجة الخطيئة والتوبة منها وإصلاح الآثار الناجمة عن الخطايا .
ثم نسعى – في تدابير وقائية- إلى تزويد النفس بالقيم الموجهة والضابطة للسلوك ، ويتمثل ذلك فى تأكيد الإسلام على ( التقوى) و تجنب ما يؤدى إلى سقوط النفس وانحرافها فعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ.
الثاني : نمائي : وهو بناء صفات إيجابية في النفس بشكل مستمر والتزكية هنا في بعدها التنموي تعمل على تنمية الشخصية الإنسانية بثروة من القيم الحافزة إلى الخير . وتحقق الغنى الحقيقي للنفس :
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ـ ﷺ ـ i قَال(َ لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ )
فالتزكية لا تقف عند حد تخليص النفس من عيوبها و حل مشكلاتها بل تهدف إلى إيجاد شخصية متنامية وفعالة ومنتجة لا تجمد عند حال : (وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا } .
إن التزكية ليست إضفاء عبارات الثناء أو المديح للنفس ليس محاولة لتلميع النفس في عيون الآخرين أي ليست كلاما يقال بل جهدا صادقا بنبع من داخل النفس و يراه الناس سلوكا طاهرا وعلاقة ودودة من الحب ولهذا يقول الحق عز وجل : هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى .
الشعور في الحاجة إلى تزكية النفس:
هذه هي الخطوة الأولى ، أن تجد الرغبة في إصلاح النفس ، وأن تكتشف حاجتك الفعلية على المراجعة الذاتية. والقرآن يطلب منا نظرة على ما قدمنا من عمل : قال تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) .
إن أوجاع الجسم تجعلنا نبادر إلى معالجتها فأوجاع النفس أولى بتلك المبادرة . فالقلب السليم هو شرط النجاة الوحيد ، لكن المشكلة أننا قد لا نحس بعيوبنا الشخصية كما نحس أوجاع البدن لذلك من المهم أن نتفقد أنفسنا لنتبصر مواضع عللها.
إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيراً بصّره بعيوب نفسه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن الكثير من الناس غافلون عن عيوب أنفسهم ( يرى أحدهم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عين نفسه).
كيف تعرف عيوب نفسك:
الأول: عرض أحوالها على كتاب الله وسنة رسوله I ليرى مدى قربها أو بعدها عن أحوال المؤمنين الذين وصفهم الله في كتابه أو بينها رسوله i في أسوته الحسنة ، وعندما سئلت عائشة عن خلق النبي I قالت لسائلها : ( أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ ، فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ i كَانَ الْقُرْآنَ ) .
الثاني: أن يختار صديقاً بصيراً متديناً يصدقه النصح فيما يلاحظ من أحواله وأفعاله، فما كره من أخلاقه وأفعاله وعيوبه الباطنة والظاهرة ينبهه عليها. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ٌـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ (الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِه).
الثالث: أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة خصومه فإن عين السخط تبدي المساوئ. ولعل انتفاع الإنسان بعدوّ مشاحن يذكره عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يثني عليه ويمدحه ويخفي عنه عيوبه ، روي عَنْ الطُّفَيْلِ d قَالَ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ نِعْمَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ لَوْلا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ فَسَمِعَ النَّبِيُّ i فَقَالَ ( لا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ ) ويظهر في الحديث كيف نبه الرسول i المسلمين على عيب كشفه أحد المشركين .
الرابع: أن يخالط الناس فكل ما رآه مذموماً فيما بـين الخلق فليطالب نفسه به وينسبها إليه، فيرى من عيوب غيره عيوب نفسه ويعلم أن الطباع متقاربة في اتباع الهوى. فليتفقد نفسه ويطهرها من كل ما يذمه من غيره) . قال تعالى : ( قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ).
الحذر من الغفلة وعلاجها:
البداية الصحيحة لتزكية النفس تبدأ بلحظة انتباه للمعطيات التي حبانا الله إياها ، وموقفنا منها ، وبعبارة أخرى ملاحظة نعم الله الباطنة والظاهرة.. وواجبنا تجاهها ، وهو القيام بشكرها
قال تعالى : ( يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)
سوف تقودك هذه اليقظة الإيمانية إلى أن تتجه إلى ربك مناجيا (اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْت)َ
لكن كثيرا من الناس لا يقدر نعم الله عنده بل يزدريها لأنه يلهث دائما إلى ما لدى الآخرين لذلك نصحنا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله : ( انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ )
ومما يختلط فهمه على بعض الناس أن يرى بعض العصاة والسيئين يعيشون في راحة وتنعم ، وهنا يكشف لنا رسولنا حقيقة هذا الأمر فيقول i ٍ (َ إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ) فانتبه إلى نعم الله عندك فإذا أردت المزيد فعليك بالشكر .