من فضائل العلم ما ثبت في الأحاديث: أنه أفضل من العبادة، وأن العالم مقدم على العابد .
ففي حديث أبي الدرداء المشهور: “فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب”.
وكذلك جاء في حديث معاذ بن جبل.
وفي حديث أبي أمامة: “فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم”.
وفي حديث حذيفة وسعد: “فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع”.
وذلك لأن العلم يسبق العمل، ويدل عليه، ويرشد إليه، فهو دليل له من ناحية، وشرط لقبوله من ناحية أخرى، فلا عمل بلا علم، وقد يوجد علم بلا عمل، والمعنى: أنه كلما وجد العمل لزم وجود العلم، بخلاف عكسه، ولهذا قيل: العلم بدون عمل جنون، والعمل بدون علم لا يكون.
ومن ناحية أخرى فضل العلم على العبادة، لأن نفع العلم متعدٍ، ونفع العبادة قاصر، فالعبادة إنما تنفع صاحبها، والعلم ينفع الكافة.
ثم إن نفع العبادة ـ غالبًا ـ ينتهي بالفراغ منها، ولكن نفع العلم يبقى إلى ما شاء الله، ولهذا عد في الأمور الباقية للإنسان بعد موته، فإذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من أشياء معروفة منها: علم ينتفع به من بعده.
وعلى قدر المنتفعين بعلمه يكون أجره، فكلما اهتدى به مهتدٍ إلى طريق الخير، واسترشد به مسترشد في معرفة الحلال من الحرام، والهدى من الضلال، كان له أجره، كما جاء في الحديث: “من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله”.
ولأن العلم إما فرض عين، وإما فرض كفاية، وكلاهما أفضل من الاشتغال بالنوافل.
ولأن العلم من صفات الله تعالى، والعمل من صفات المخلوقين، فهو هنا يتخلق بخلق من أخلاق الله تعالى، إن صح التعبير، أو يتصف بصفة من صفاته، واسم من أسمائه الحسنى.
ولأن العلم هو الذي يكشف الغوامض من المسائل، ويفصل في دقائق الأمور، كما رأينا في حديث الذي قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل رجلا عابدا هو أعبد أهل الأرض في زمنه: هل له من توبة؟ فقال له: لا توبة لك، فقتله، وأكمل به المائة، ثم سأل رجلا عالما، هو أعلم أهل الأرض في زمنه: هل له من توبة؟ فقال له: نعم، وأمره أن ينتقل من القرية الظالمة الفاسدة إلى قرية أخرى صالحة.
ولأن العلم هو الذي يبين الحق من الباطل في الاعتقادات، والصواب من الخطأ في المقولات، والمسنون من المبتدع في العبادات، والحلال من الحرام في التصرفات، والصحيح من الفاسد في المعاملات، والفضيلة من الرذيلة في السلوكيات، والمقبول من المردود في المعايير، والراجح من المرجوح في الأقوال والأعمال.
وبدون العلم يمكن أن يعتقد المرء الباطل وهو يحسبه حقا، ويرتكب البدعة وهو يظنها سنة، ويتورط في الحرام وهو يتوهمه حلالا، ويسقط في حمأة الرذيلة وهو يتصورها فضيلة، ولهذا كان من الأدعية المأثورة: “اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه”. حتى لا يكون المرء ممن (زين له سوء عمله فرآه حسنًا).
وقد حذرت الأحاديث الصحاح من فئة من الناس “يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، وقراءته إلى قراءتهم”، ولكنهم “يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية”، ومعنى قوله: “لا يجاوز حناجرهم”: أن القرآن لا تفقهه عقولهم وقلوبهم، لأنه مجرد ألفاظ وأصوات تخرج من حناجرهم، فآفتهم ليست في ضمائرهم ونياتهم، بل في عقولهم وأفهامهم! ولهذا وصفوا بأنهم: “يدعون أهل الأوثان، ويقتلون أهل الإسلام”! وهؤلاء هم الخوارج الذين حاربهم علي بن أبي طالب والصحابة معه. ولهذا جاء في حديث معاذ المشهور في فضل العلم: أنه إمام والعمل تابعه.
وذكر الإمام البخاري في كتاب “العلم” من صحيحه: أن العلم يسبق العمل، واستدل لذلك بالقرآن والحديث.
وقال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز: من عمل على غير علم، كان ما يفسد أكثر مما يصلح!
ومن المعروف: أن كثيرًا من الأئمة صرحوا بأن أفضل الأعمال بعد الفرائض طلب العلم.
فقال الشافعي: ليس شيء بعد الفرائض أفضل من طلب العلم، وهذا الذي ذكر أصحابه عنه أنه مذهبه.
وكذلك قال سفيان الثوري، حكاه الحنفية عن أبي حنيفة.
وأما الإمام أحمد، فحكي عنه ثلاث روايات، إحداهن: أنه العلم. فإنه قيل له: أي شيء أحب إليك: أجلس بالليل أنسخ أو أصلي تطوعًا؟ قال: نسخك تعلم به أمور دينك، فهو أحب إلي.. وذكر الخلال عنه في كتاب “العلم” نصوصًا كثيرة في تفضيل العلم، ومن كلامه فيه: الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب.
والرواية الثانية: أن أفضل الأعمال بعد الفرائض صلاة التطوع، واحتج لهذه الرواية بقوله ﷺ: “واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة”، وبقوله في حديث أبي ذر وقد سأله عن الصلاة، فقال: “خير موضوع”، وبأنه أوصى من سأله مرافقته في الجنة بكثرة السجود وهو الصلاة، وكذلك قوله في الحديث الآخر: “عليك بكثرة السجود، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة”، وبالأحاديث الدالة على تفضيل الصلاة.
والرواية الثالثة: أنه الجهاد، فإنه قال: “لا أعدل بالجهاد شيئًا، ومن ذا يطيقه؟” ولا ريب أن أكثر الأحاديث في الصلاة والجهاد.
وأما مالك.. فقال ابن القاسم: سمعت مالكًا يقول: إن أقوامًا ابتغوا العبادة، وأضاعوا العلم، فخرجوا على أمة محمد ﷺ بأسيافهم، ولو ابتغوا العلم لحجزهم عن ذلك.
قال مالك: وكتب أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب: أنه قرأ القرآن عندنا عدد كذا وكذا، فكتب إليه عمر: أن أفرض لهم من بيت المال.
فلما كان في العام الثاني كتب إليه: أنه قد قرأ القرآن عندنا عدد كثير ـ لأكثر من ذلك ـ فكتب إليه عمر: أن امحهم من الديوان، فإني أخاف من أن يسرع الناس في القرآن أن يتفقهوا في الدين، فيتأولوه على غير تأويله!
وقال ابن وهب: كنت بين يدي مالك بن أنس، فوضعت ألواحي، وقمت إلى الصلاة (يعني النافلة كما يدل السياق) فقال: ما الذي قمت إليه بأفضل من الذي تركته.
قال شيخنا: وهذه الأمور الثلاثة التي فضل كل واحد من الأئمة على بعضها، وهي: الصلاة، والعلم، والجهاد، هي التي قال فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لولا ثلاث في الدنيا لما أحببت البقاء فيها: لولا أن أحمل أو أجهز جيشًا في سبيل الله، ولولا مكابدة هذا الليل، ولولا مجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر، لما أحببت البقاء.
فالأول: الجهاد. والثاني: قيام الليل، والثالث: مذاكرة العلم. فاجتمعت في الصحابة بكمالها، وتفرقت فيمن بعدهم.
وقد حكى ابن القيم ما ذكره أبو نعيم وغيره عن بعض أصحاب رسول الله ﷺ أنه قال: “فضل العلم خير من نفل العمل، وخير دينكم الورع”. وقد روى هذا مرفوعًا من حديث عائشة رضي الله عنها. وفي رفعه نظر.
قال: “وهذا الكلام هو فصل الخطاب في هذه المسألة، فإنه إذا كان كل من العلم والعمل فرضًا فلابد منهما كالصوم والصلاة، فإذا كانا فضلين ـ وهما النفلان المتطوع بهما ـ ففضل العلم ونفله خير من فضل العبادة ونفلها، لأن العلم يعم نفعه صاحبه والناس معه، والعبادة يختص نفعها بصاحبها، ولأن العلم تبقى فائدته وعلمه بعد موته، والعبادة تنقطع عنه”.
ومن وجوه فضل العلم على العبادة التي ذكرها العلامة ابن القيم في “المفتاح”: أنه يدل صاحبه على العمل الأفضل عند الله، وإن كان أقل من غيره مشقة، فصاحب العلم أقل تعبا ومعاناة، وهو أكثر مثوبة وأجرا! قال: واعتبر هذا بالشاهد، فإن الصناع والأجراء يعانون الأعمال الشاقة بأنفسهم، والأستاذ المعلم يجلس يأمرهم وينهاهم، ويريهم كيفية العمل، ويأخذ أضعاف ما يأخذونه.
وقد أشار النبي ﷺ إلى هذا المعنى حيث قال: “أفضل الأعمال إيمان بالله، ثم الجهاد”، فالجهاد بذل النفس، وغاية المشقة، والإيمان علم القلب وعمله وتصديقه، وهو أفضل الأعمال، مع أن مشقة الجهاد فوق مشقته بأضعاف مضاعفة، وهذا لأن العلم يعرف مقادير الأعمال ومراتبها، وفاضلها من مفضولها، وراجحها من مرجوحها، فصاحبه لا يختار لنفسه إلا أفضل الأعمال. والعامل بلا علم يظن أن الفضيلة في كثرة المشقة، فهو يتحمل المشاق وإن كان ما يعانيه مفضولاً، ورب عمل فاضل، والمفضول أكثر مشقة منه.
واعتبر هذا بحال الصديق (أبي بكر رضي الله عنه) فإنه أفضل الأمة، ومعلوم أن فيهم من هو أكثر عملا وحجا وصوما وصلاة وقراءة منه، قال أبو بكر بن عياش: ما سبقكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في قلبه! وهذا موضوع المثل المشهور:
من لي بمثل سيرك المدلل؟ تمشي رويدا وتجي في الأول!