جعل الله الصلاة على المؤمنين كتابا موقوتا، أمرهم بإقامتها حين يمسون وحين يصبحون، وعشيا وحين يظهرون، كررها خمس مرات في اليوم لتكون “حماما” روحيا للمسلم يتطهر بها من غفلات قلبه، وأدران خطاياه، وقد مثل النبي ﷺ هذا المعنى في حديثه الشريف فقال: “أرأيتم لو أن نهرا على باب أحدكم، يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، فهل يبقى على بدنه من درنه شيء؟ قالوا: لا قال: كذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا” وأي إنسان يمر عليه يوم من غير خطايا وهفوات؟!
لقد خلق هذا الإنسان خلقا عجيبا، فيه من الملاك روحانيته، ومن البهيمة شهوتها، ومن السباع حميتها، وكثيرا ما تغلبه الشهوة، ويستفزه الغضب، ويجذبه تراب الأرض الذي خلق منه، فيقع في الأخطاء، ويتردى في الخطايا، وليس العيب أن يخطئ الإنسان، فكل بني آدم خطاء، ولكن العيب أن يتمادى في الخطأ، ويستمر في الانحدار، حتى يصير كالأنعام أو أضل سبيلا.
وفي الصلوات اليومية الخمس فرصة يثوب فيها المخطئ إلى رشده، ويفيق المغرور من سباته، ويرجع الإنسان إلى ربه، ويطفئ هذا السعار المادي الذي أججته المطامع والشهوات، ونسيان الله والدار الآخرة.
وفي هذا المعنى يقول الرسول صلوات الله عليه: “إن لله ملكا ينادي عند كل صلاة: يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها” إنها نار موقدة، تطلع على الأفئدة وتلفح القلوب والعقول. والصلاة هي مضخة الإطفاء التي تخمد هذه النار، وتمسح دخانها، وسوادها، وتغسل أثرها من بين جوانح الإنسان. ويوضح هذا ابن مسعود في حديثه الذي يقولفيه النبي ﷺ: “تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الصبح غسلتها ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا تكتب عليكم حتى تستيقظوا!”.
ويصور الرسول لأصحابه ـ بكل وسائل التوضيح ـ عمل الصلاة في محو الخطايا التي تبدر من الإنسان في صباحه ومسائه، فيروي لنا عنه سلمان الفارسي: أنه كان معه تحت شجرة فأخذ منها غصنا يابسا، فهزم حتى تحات ورقه، ثم قال: يا سلمان، ألا تسألني، لم أفعل هذا؟ قلت: ولم تفعله؟ قال: إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى الصلوات الخمس تحاتت خطاياه، كما تحات هذا الورق، ثم تلا الآية الكريمة: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل، إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين).
وليس أثر الصلوات مقصورا على هذا الجانب من غسل الأدران، وتكفير الخطايا، ومطاردة السيئات، ولكنها تقوم بمهمة إيجابية أخرى، فإنها للحظات خصبة مباركة، تلك المرات الخمس التي ينتزع الإنسان فيها نفسه كل يوم من دنياه، دنيا الطين والحمأ المسنون، دنيا الأحقاد والصراع، وتنازع البقاء أو تنازع الفناء، ليقف بين يدي مولاه لحظات خاشعة يخفف بها من غلواء الحياة، وضغط الطين والمادة الكثيفة على القلوب والأرواح.
إنها تقوم بتغذية ذلك الجزء العلوي الإلهي في كيان الإنسان، وهو المشار إليه بقوله تعالى: (ونفخت فيه من روحي) ذلك الكائن الروحي الذي يعيش بين جوانح الإنسان، لا يكفي لتغذيته علم العلماء، ولا أدب الأدباء، ولا فلسفة المتفلسفين، ولا يغذيه إلا معرفة الله وحسن الصلة به، وهذه الصلوات الخمس هي وجبات الغذاء اليومي للروح، كما أن للمعدة وجباتها اليومية، ففي مناجاة العبد لربه في صلاته شحنة روحية تنير قلبه، وتشرح صدره، وتأخذ بيده من الأرض إلى السماء، وتدخله إلى الله بلا باب، وتقفه بين يديه بلا حجاب، فيكلمه بلا ترجمان، ويناجيه فيناجي قريبا غير بعيد، ويستعين به فيستعين بعزيز غير ذليل، ويسأله فيسأل غنيا غير بخيل، تكاد تشف روحه وتصفو نفسه، فتسمع كلام الله الذي يقول: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: “الحمد لله رب العالمين” قال الله عز وجل: حمدني عبدي، فإذا قال: “الرحمن الرحيم” قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: “مالك يوم الدين” قال: مجدني عبدي، فإذا قال: “إياك نعبد وإياك نستعين” قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: “اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين” قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) ويعبر النبي ﷺ عن قوة الصلة بين العبد وربه في الصلاة فيقول: “إن الرجل إذا دخل صلاته أقبل الله عليه بوجهه، فلا ينصرف عنه، حتى ينقلب ـ أي يرجع ـ أو يحدث حدث سوء”.