الأصل في سَداد الدّين أن يكون بالعُملة نفسها، فإذا كان هناك اتفاق على السّداد بعملة أخرى فالاتفاق مُعتبَر، سواء أكان بالسعر وقت تعلُّق الدّين بالذِّمة أو وقت الوفاء به، وإن لم يكن هناك اتفاق فلا يُرغَمُ الدائن على قَبول عملة تحقِّق له خسارة، ومن هنا رأى المَدين أن يراعِيَ سعر العملة وقت السداد، وهو ما يقضي به العدل والإحسان في القضاء الذي نصّ عليه الحديث “إن خيرَكم أحسنُكم قَضاءً” كما رواه البخاري ومسلم.
حكم بيع عملة بعملة أخرى
ورد حديث صورتُه قريبة من هذه الصُّورة إن لم تكن عينَها أو مثلَها: وهو: أن عبدَ الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: أتيتُ النبيّ ـ ﷺ ـ فقلت له: إنِّي أبيع الإبل بالبَقيع، فأبيع بالدنانير وآخذُ الدّراهَم، وأبيع بالدّراهم وآخذ الدّنانيرَ ، فقال: “لا بأسَ أن تأخذ بسعرِ يومِها ما لم تَفترِقا وبينكما شيءٌ” رواه الخمسة ـ أحمد وأصحاب السُّنن الأربعة ـ وقد صحّحه الحاكم وأخرجه ابن حبان والبيهقي. لكنّ الترمذي ذكر أن الحديث موقوف على ابن عمر وليس مرفوعًا إلى النبيِّ ـ ﷺ ـ والبيهقي قال عنه: تفرّد برفعه: سِماك بن حرب، وقال شعبة: رفعه سِماك وأنا أفرقه (كذا).
ومهما يكن من شيء فقد قال الشوكانيّ: فيه دليل على جواز الاستبدال عن الثّمن الذي في الذِّمة بغيره، وظاهره أنّهما غير حاضرَين جميعًا، بل الحاضِر أحدُهما وهو غير اللازِم فيدلُّ على أنّ ما في الذِّمّة كالحاضر، وفيه أن جواز الاستبدال مُقيَّد بالتقابُض في المجلس، لأن الذَّهب والفضّة مالان رِبويّان فلا يجوز بيع أحدِهما بالآخر إلا بشرط وقوع التّقابُض في المجلس، وهو محكِيٌّ عن عمر وابنِه عبد الله والحسن والحكم وطاووس والزهري ومالك والشافعي وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد وغيرهم ـ ورُوِيَ عن ابن مسعود وابن عبّاس وسعيد بن المسيب ـ وهو أحد قولي الشافعي ـ أنّه مكروهٌ، أي الاستبدال المذكور، والحديث يردُّ عليهم.
بيع عملة بأخرى بسعر مختلف
اختلف الأوّلون ـ وهم المُجيزون ـ فمنهم من قال : يُشترَط ألّا يكون بسعر يومِها كما وَقع في الحديث، وهو مذهب أحمد، وقال أبو حنيفةَ والشافعيّ: إنّه يجوز بسعر يومِها وأغلَى وأرْخص، وهو خِلاف ما في الحديث من قوله “بسعرِ يومِها” وهو أخَصُّ من حديث “إذا اختلفتْ هذه الأصنافُ فبِيعوا كيفَ شِئْتُم إذا كان يَدًا بيدٍ” فيُبنى العام على الخاص، انتهى ما قاله الشوكاني في نيل الأوطار ج 5 ص 166″.
فإذا اتفق شخص مع شركة على شراء سلعة بثمن معلوم يدفع في المستقبل، واتفق مع مَصرِف على أن يموّل تلك الصّفقة بعملة غير العملة التي تمّ بها الشِّراء، فهل يجوز أن يُراعيَ عند السّداد سِعر العملة التي تمّت بها الصّفقة وقت السّداد، أو يُراعِي سعرَها وقت التعاقُد؟
هذه الصورة ليست بَيعَ عملةٍ بعملةٍ، ولكنها سَداد دَين تعلَّق بالذِّمة كالقَرض.وهي التي وردت في الحديث ، واشتُرط فيها التّقابُض في المجلس، أي وقت عقدِ الصفقة ، إعمالًا لحديث بيع العُملة بعملة أخرى بشرط التّقابُض، وعليه فإنها لا تَصِحُّ؛ لأن العملة الأخرى مؤجَّلة لا تُقبَض إلا بعد مُضي مدة من وقت الشِّراء.
وهذا في صورة بيع أو استبدال عملة بعملة، لكن رُوِيَ عن ابن عمر صورة فيها قضاء دَين بعملة مغايِِرة، وهي أنه سُئِل عن أَجيرَين له عليهما دراهمُ، وليس معهما إلا دنانيرُ، فقال أعطوه بسعر السُّوق، لأنَّ هذا جرى مَجرى القضاءِ فقُيّد بالمثل كما لو قَضاه من الجِنس والتماثُل هاهنا، دنانيرُ بدراهم ـ من حيث القيمةُ لتعذُّر التماثل من حيث الصُّورةُ.
ألا يدلُّ هذا الكلامُ على أنّه يجوز سَداد الدَّين بعملة أخرى بسعر يوم السّداد، وهو متأخِّر عن يوم الاستدانةِ؟ الأمر يحتاج إلى نظر.هذه الرواية الثانية عن ابن عمر ـ ذكرها الدكتور أبو سريع عبد الهادي ـ خريج كلية الشريعة والقانون بالأزهر ـ في كتابه “الرّبا والقرض في الفقه الإسلامي ص 72” معتمِدًا في نقله على المصادر الآتية:
(1) المغني ج 4 ص 52، 54، 55.
(2) حاشية ابن عابدين ج 5 ص 266، 267.
(3) الكافي ج2 ص 643، 644.
(4) كشاف القناع.
حكم سداد الدين بعملة مغايرة
قرّر مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الثامن المنعقد في بندر سربجادن بروناي دار السلام عدة قرارات، منها:
1 ـ يجوز أن يتَّفِق الدائن والمَدين يوم السَّداد ـ لا قبله ـ على أداء الدّين بعملة مغايِرة لعملة الدّين إذا كان ذلك بسعر صرفِها يوم السداد، وكذلك يجوز ـ في الدّين على أقساط بعملة معيّنة ـ الاتِّفاق يوم سَداد أي قسط أيضًا على أدائِه كاملًا بعملة مغايِرة بسعر صرفها في ذلك اليوم. ويُشترَط في جميع الأحوال ألا يبقَى في ذمّة المَدين شيء ممّا تمّت عليه المُصارَفة في الذِّمّة، مع مُراعاة القرار رقم 55/1/65 بشأن القَبض.
2 ـ يجوز أن يتفق المتعاقِدان عند العَقد على تعيين الثّمن الآجِل أو الأجرة المؤجّلة بعملة تدفع مرة واحدةً أو على أقساط محدّدة من عُملات متعدِّدة أو بكَميّة من الذّهَب، وأن يتِمَّ السّداد حسب الاتفاق.
مجلة الهداية الصادرة بالبحرين في ربيع الثاني 1414هـ (أكتوبر 1993م).