يقول المستشار الشيخ فيصل مولوي -رحمه الله تعالى-نائب رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث :ـ
خلق الله سبحانه وتعالى البشر وأقام بينهم روابط متعددة، يتعاونون بها على شؤون الحياة، وحولها يتلاقون.
من هذه الروابط:
أولاً : رابطة الإنسانية :
وهي التي تربط بين كل إنسان على وجه الأرض بالأخرين، شاء هذا أم أبى، فالإنسان من ذريّة آدم، والإنسان مكلّف من عند الله بتكليف واحد، سواء امتثل لهذا التكليف أم لا.
ولذلـك نجد الكثير من آيات القرآن الكريم توجّه الخطـاب للناس جميعاً: {.. يا أيها الناس ..}. وقد ورد لفظ (الناس) أكثر من مائتي مرة في كتاب الله، فضلاً عن غيرها من الألفاظ التي تعبّر عن وحدة الجنس البشري، وتشير بالتالي إلى وجود رابطة بين هؤلاء الناس، وهي التي نسمّيها الرابطة الإنسانية.
لأنها موجودة عند أي إنسان تجاه جميع الناس. هذه الرابطة بالنسبة لنا كمسلمين ترتّب علينا واجبات وحقوقاً شرعية نجدها مفصّلة في كتب الفقه والأخلاق والدعوة، ولا حاجة إلى ذكرها في هذا المقام.
ثانياً : رابطة القوميّة :
وهي أقوى من الرابطة الأولى، فالإنسان يلتقي مع قومه – وهم مجموعة من الناس – على أمور أكثر من مجرّد الرابطة الإنسانية. إنه يعيش عادة مع قومه، ويتكلّم بلسانهم، وله معهم مصالح مشتركة، وبينه وبينهم في الغالب قواسم مشتركة كثيرة. ولا شكّ أنّ هذه الرابطة موجودة ولها تأثيرها في واقع الفرد ودنيا الناس. ولذلك فقد ورد ذكر لفظ (القوم) ومشتقّاته في القرآن الكريم أكثر من ثلاثمائة وأربعين مرة.
ثالثاً : رابطة العائلة :
وهي تمتدّ على ثلاث دوائر:
الأولى: وتشمل الوالدين والأولاد والزوجة ومن يسكن معهم من الأقارب في نفس الدار.
الثانية: تشمل سائر الأقرباء من العصَبات والنساء وذوي الأرحام.
الثالثة: تشمل سائر الأقرباء الذين ينتسبون إلى جدّ واحد مهما كان بعيداً.
هذه الرابطة تترتّب عليها آثار أكبر في حياة الإنسان، ولذلك خصّتها الشريعة بقدر كبير من الأحكام، سواء ما يتعلّق بالأبوين والزوجة والأولاد، أو بالمحارم، أو بالمواريث، أو بالعاقلة (وهم الأقرباء الذين يلتزمون بمساعدة أحدهم في دفع الدّية إذا ارتكب جريمة قتل خطأ)، أو غير ذلك.
رابعاً : رابطة المصلحة :
وهي التي تربط مجموعة من الناس بمصالح مشتركة يريد كل واحد منهم الحفاظ عليها ودعمها، كالنقابات التي تربط بين العاملين في مجال واحد، وقد لا يكون بينهم رابط آخر.
فهذا التعايش الدائم والمصالح المتبادلة تولّد رابطة بين الإنسان وبين هؤلاء القوم.
خامساً : رابطة الإقامة- أو المواطنة – :
فالذي يقيم في بلد ما يشعر تجاه هذا البلد برابطة تشدّه إلى مكان إقامته الجديدة.
فالمسلم إذا أقام ببلد غير إسلامي، والعربي حين يقيم في بلد غير عربي، والمسيحي حين يقيم في بلد إسلامي _ غير بلده _ كل هؤلاء يشعرون برابطة خاصة تجاه بلد الإقامة الجديد، قد يكون فيها شيء من الحب والاحترام، وقد تكون نوعاً من الحقد والكراهية بحسب المعاملة التي يلقاها في هذا البلد الجديد، وهذه الروابط هي مشاعر فطرية بشرية طبيعية.
سادساً : الرابطة الإسلامية :
أما الرابطة الإسلامية فهي التي تربط المسلم بأخيه المسلم، وهي تشمل كل من يقول: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله. إنها الرابطة العقائدية التي تهيمن على ما سواها من الروابط جميعاً وتغلبها عند التنازع، لكنها مع ذلك لا تلغي أية رابطة منها على الإطلاق. والإشكالية الحاصلة هنا هي أنّ بعض المسلمين يظنّ أنّ هذه الرابطة تلغي جميع الروابط الأخرى ولا يعترف إلاّ بها، مع أنّ هذا ليس صحيحاً على الإطلاق.
فالله عزّ وجلّ يقول: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشَوْن كسادها ومساكنُ ترضَوْنها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتى يأتيَ الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} .
يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: (وفي الآية دليل على وجوب حبّ الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين الأمّة، وأنّ ذلك مقدّم على كلّ محبوب).
ومعنى ذلك أنّ حبّ الله ورسوله لم يلغِ أنواع الحب الأخرى، ولكنّه يقدَّم عليها فقط.
لقد أشارت الآية الكريمة إلى رابطة الأبوّة والبنوّة والأخوّة والزوجية والعشيرة (القومية) والمصالح المتمثّلة بالأموال والتجارة ورابطة المساكن أي الإقامة، واستعملت كلمة (أحبّ إليكم)، فالله تعالى لم يُنكر علينا هذه الروابط وما ينشأ عنها من حب، ولكنه أنكر علينا أن يكون هذا الحب أكبر من حبّنا لله ورسوله، فالمطلوب أن يكون الحب لله أكبر من أيّ حب آخر.
وحين التعارض فإن المسلم يغلب حبّه لله والتزامه بأحكام شريعته على مقتضيات جميع الروابط الأخرى.
أمّا إذا لم يقع التعارض فإنه يعيش وفي قلبه حب لهذه العناصر الدنيوية طالما أنها لا تتعارض مع حبّه لله أو حبّه لرسول الله ﷺ. إذاً لا بدّ أن ينشأ عن هذه الروابط التي أشار إليها ربّ العالمين حبّ، لأنّ الإنسان يعيش مع الإنسان الآخر إمّا بحبّ أو ببغض. والحبّ درجات والبغض درجات. فالحبّ قد يكون في أدنى الدرجات أو أعلاها، والبغض كذلك، ولا يمكن أن يرتبط أي إنسان بآخر إلاّ بأحد هذين الشعورين بشكل من الأشكال.